مذكرات صوفي سابق
صور واقعية
مصطفى فهمي مصطفى مدرس: إعدادي الإسكندرية
ليسانس لغة عربية- كلية اللغة العربية
جامعة الأزهر
نشأ الصبي في بيت صوفي كبير ، فأبوه أحد أعلام الطريقة الأحمدية ومن قبل كان جده ، وتفتحت عينا الصبي على كثير من المظاهر والتقاليد . رأى (الحضرة) التي كانت تقام ليلة كل جمعة ، وكان يسمع ويرى ، يسمع الشيخ (…) فقيه الكتاب يفسر القرآن فتضج أصوات الحاضرين بالإعجاب ، ويسمع القوم يقرءون أورادا فيها ألفاظ ضخمة لا يدري الفتي لها معنى ، ويرى القوم وقد انتفضوا صفين ، وأخذوا يقذفون أنفسهم ذات اليمين وذات الشمال مرددين ( اهه .. اهه ) تلك الكلمة التي كانت بالنسبة للصبي لغزا لا حل له.
ورأى الصبي(الموكب) ليلة المولد وكيف يستعد له أبوه ، تأتي فرقة من المنشدين ويجلسون (يسخنون) قبل ( الموكب) وإذا (بالحشيش) و(الأفيون) وإذا الشيخة (…) تجهز الساجات حتى تقوم بحركاتها المسلية خلال الموكب بعد أن تشرب ما تيسر من الكحول . وبعد أن يتم الاستعداد ، يركب والد الصبي جوادا ويأخذ الصبي أمامه فتدفع الأمهات أولادهن إليه تيمنا بالصبي المبارك الذي لا يدري من أمر نفسه وأمر هؤلاء شيئا .
ويطوف الموكب شوارع القرية والشباب على الجانبين يرقصون كالأفاعي عيونهم تتسلق أسطح المنازل لترى الفتيات وقد تبذلن ، بينما تنطلق من أفواههم أصوات متشنجة ( أهي طلت .. أهي بصت ) وبرغم كل هذا التهريج ما كان الصبي يحس شيئا من المرح ، فقد كان خياله مشدودا إلى أنواع الطعام الفاخرة التي استدان والده ثمنها من أجل ارضاء فرقة المولد . كان الصبي يرى ذلك ويسمعه فتثور في نفسه علامات استفهام صغيرة لا يدري كيف يعبر عنها ، أو يستطيع الاجابة عليها.
وذهب الصبي إلى المعهد الأزهري ، وأقبل يسأل أساتذته ويقرأ ما يصادفه، ويستلهم قلبه ، فبدأ يتمرد ويثور .
علم أن ما يدور في (الحضرة) ليلة كل جمعة جهل خطير ، فما شأن الدين بهذه الألغاز والطلاسم التي يطلقون عليها الأوراد؟ وأين مكان القرآن الكريم حتى يستبدل به مسخ من كلام الناس؟
وفجأة سمع الفتي نفسه يضحك عندما تذكر ذلك الفقيه وهو يفسر قول الله تعالى: ( وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام ) بأن السفينة ترفرف كالعلم فوق الماءبقدرة الله ، جاهلا أن الآية تبين قدرة الله في أن ألين شيء وهو الماء يحمل أصلب شيء وهو الحديد أي السفينة التي في ضخامة الجبال.
ولا ينسى الفتى ما قاله أحد (علماء ) تلك الحضرة من أن نطفة محمد عليه السلام استقرت في ظفر سبابة آدم عليه السلام ، ومن أجل ذلك نشير بالسبابة عند قراءة التشهد في الصلاة ..
ولا ينسى الفتى والده وهو يعطي العهد لمريد جديد ، ويعاهده على الإخلاص للطريق وأن يعادي سواها ولا يواد غير أهل طريقه وفي النهاية … (تفل) في فم ذلك المريد… تبركا .
نعم يرى الفتى ذلك ويسمعه ، وتمر الأيام ويزداد نضجه فتزداد ثورته وإيمانه بأن الجهاد الأكبر في القضاء على وساوس المتصوفة .
ودرس الفتى في المعهد الأزهر قول الله تعالى: ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، وأولئك هم المفلحون ) .. وقول الرسول عليه السلام: ” من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فمن لم يستطع فبلسانه فمن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان” ، فقرر أن يبدأ . وكانت الشرارة ذلك الحادث العجيب.
كانت فرق الطرق الصوفية بالقرية تستعد لمواكب المولد ، وإذا بخلاف خطير ينشأ بينهم قال قائل منهم: نحن أصحاب العقب، فصاح صائح من الجانب الآخر: بل العقب لنا ، واحتدم الجدل والخصام وتطور السباب إلى الاشتباك بالأيدي والعصى ، ووجد الفتى نفسه يكتب إلى العمدة شاكيا أقطاب الصوفية الذين فرقوا الناس شيعا وزعموا لطرقهم أنها خاتمة وكأنها رسالة بعد رسالة محمد- صلى الله عليه وسلم- ، وهدأت النفوس على مضض ، وكان اليوم التالي يوم الجمعة فتسلل الفتى إلى المنبر وكانت خطبة ساخنة فضح الفتى فيها الاعيب المتصوفة وجهلهم وسذاجة الناس في تصديقهم ودعا الجميع إلى التزام الكتاب والسنة ، وما أن انتهت الصلاة حتى دارت معركة في المسجد بين أتباع والد الفتى وأتباع الطرق الأخرى ووصل الأمر إلى مأمور المركز الذي استدعى الفتى ، وأفهمه أن ذلك اخلال بالأمن، وذلك يعرض مستقبله للخطر ، وعليه ألا يعود لمثل هذا العبث ، ولكن الفتى زاد حماسا ، وقرر أن يسلك طريقا أخرى ، واتجه إلى والده .. وذات مساء دار بينهما الحديث التالي:
الفتى: يا أبي: إما أن تقنعني أو أقنعك ، ماهذه الصوفية؟
الوالد- يا بني هي لب الإسلام والحقيقة التي أنزلت على سيدنا رسول الله مع الشريعة .
الفتى- وما الحقيقة؟ وما الشريعة؟