مدخل إلى الفقه الإسلامي
– 2 –
بقية مقال العدد السابق
الأستاذ : أحمد فهمي أحمد
المدارس الفقهية في عصر التابعين :
عندما تفرق علماء المسلمين في الأمصار نتج عن ذلك أن أصبح للفقه طابع خاص في كل بلد ، وكان الفقهاء في عزلة عن غيرهم من فقهاء البلدان الأخرى ، مما أدى إلى عدم تبادل الأفكار ، وقد كان الاختلاف الرئيسي بينهم في مسألة الاتجاه إلى الحديث والرأي ، وكانت مدرسة المدينة من أهم معاقل الحديث ومدرسة الكوفة من أهم معاقل الرأي .
مدرسة المدينة : نظرًا لوجود عدد كبير من الصحابة بالمدينة وبعدها عن المنازعات السياسية والفتن فقد اتجه إليها مجموعة من علماء التابعين عندما تنافروا مع بني أمية وكان طابع هذه المدرسة يتلخص في التمسك بظواهر النصوص وعدم الاهتمام بمعرفة علة الحكم أو حكمة التشريع . وكثرة اعتمادهم على السنة وتفضيلهم لها على الرأي مما أدى بالتالي إلى العمل بأحاديث الآحاد ما دام الراوي موثوقًا بحفظه ودينه وأمانته ، وكان أيضًا من طابع هذه المدرسة عدم التعرض للمسائل الافتراضية في الفقه .
وكان من أعمال مدرسة الحديث أن قامت بحفظ السنة وجمع شتاتها فقد نقل أن ابن شهاب الزهري قام بتدوينها وقام بذلك أيضًا تلميذه مالك بن أنس كما تم لهذه المدرسة تأسيس علم الفقه ووضع منهجه العلمي .
مدرسة الكوفة : كان طابع هذه المدرسة العناية بالبحث عن علل الأحكام وحكمة التشريع وربط الحكم بها وجودًا وعدمًا والتشدد في قبول أخبار الآحاد ، بسبب انتشار الأحاديث الموضوعة ، وظهور الفقه الافتراضي لدرجة أنهم افترضوا أمورًا لا يمكن أن تقع عادة وهذا مما أخذه عليهم علماء المدينة .
نشأة المذاهب الفقهية الجماعية :
بنهاية عصر الدولة الأموية وبداية عصر الدولة العباسية عام 132 هجرية أخذ الفقه دورًا جديدًا وصل فيه إلى قمة اتساع نطاقه ودقته وعمقه وأخذ الأئمة يبحثون في كل باب من أبوابه حتى أصبحت له مذاهب متكاملة أخذ الحكام يلتزمون بها في الحكم والفتوى والقضاء .
وقد ظهرت المذاهب الجماعية التي وضع أسسها الأئمة الذين نسبت إليهم هذه المذاهب ثم واصل تلاميذهم العمل على بيان أحكام ما تركه أستاذتهم من الفروع واستمرت الطبقات التالية من الفقهاء في العمل على استكمال أحكام الفروع ملتزمين بذات الأصول والقواعد التي سار عليها أسلافهم .
وفي هذا العصر يصل النشاط الفقهي إلى حد أن بعض الفقهاء كانوا يفترضون أمورًا لم تحدث ويضعون لها أحكامًا حتى ظهر ما سمي بالفقه الافتراضي وكثيرًا ما كانوا يفترضون أمورًا تتعارض مع سنة الله الكونية ، وأضرب مثالاً لذلك عندما بحثوا أمر الختان وهل هو سنة أم واجب فإن أبحاثهم تضمنت افتراض أن الله عز وجل خلق لصبي ذكرين فهل يختن الذكران أم يكتفي بختان أحدهما فقط وهكذا في أمور كثيرة .
الاشتغال بالسنة وتدوينها :
في نفس هذا العصر الذي بدأ عام 132 هجرية وانتهى حوالي 310 هجرية كان الخلفاء العباسيون قد شجعوا العلماء على الاشتغال بالسنة وتدوينها حتى يسهل الرجوع إليها فبذلت الجهود لجمعها حتى إن الكتب الستة المشهورة البخاري ، مسلم ، ابن ماجه ، أبو داود ، الترمذي ، النسائي قد جمعت كلها في هذا العصر ، وإذا أردنا أن نضرب مثلاً واحدًا للجهد الذي بذل في جمع السنة فيكفى أن تعلم أن البخاري ظل يتنقل بين الأمصار لهذا الغرض ستة عشر عامًا جمع فيها ستمائة ألف حديث قام بدراستها سندًا ومتنًا لمعرفة الصحيح منها على ضوء المقاييس التي وضعها للرواة فإذا به يدون حوالي سبعة آلاف حديث فقط بما فيها الأحاديث المكررة، من هذه الستمائة ألف حديث ، ومما يروي عن الإمام البخاري أنه بعد أن يقتنع بصحة الحديث كان يصلي ركعتي صلاة الاستخارة قبل تدوين هذا الحديث الصحيح ، ورويت عنه أمور أخرى كثيرة لا يتسع المجال للإفاضة فيها ، وإنها إن دلت على شيء فإنما تدل على الدقة المتناهية في التأكد من صحة ما يدونه في صحيحه .
عصر التقليد :
بدأ عصر تقليد الأئمة بعد عام 310 هجرية بقليل واستمر لدى الغالبية العظمى إلى يومنا هذا حيث انتهى بعض العلماء بانسداد باب الاجتهاد طالما أن المذاهب الأربعة المعروفة : الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي دونت واكتفى بها في القضاء والفتوى . هذا بالإضافة إلى أن المرحلة التي تلت سقوط بغداد في يد التتار سنة 656 هجرية كانت مرحلة جمود فقهي لضعف الدولة الإسلامية وتفككها .
وفي هذا العصر اقتصر النشاط الفقهي على التأليف في الفقه المقارن أي مقارنة الأحكام في كل مذهب والانتصار لمذهب معين ، كما تدرج التأليف في الفقه فبعد أن كانت المؤلفات تتسم بالبسط والإسهاب وضعت المؤلفات الموجزة إيجازًا شديدًا وهي التي تسمى المتون ، ونظرًا لأن بعض هذه المتون وصل فيها الاختصار إلى حد الإخلال بالمعنى لذلك ظهرت الشروح لهذه المتون والتعليق عليها فظهر ما يسمى بالحواشي والتعليقات .
وكان ظهور هذه المتون والحواشي والتعل