كما بدأتم تعودون
للأستاذ علي عبد العظيم
معظم الناس يؤمنون بالله ؛ لأن الإيمان فطرة طبيعية في النفس البشرية ، قد تتوارى وراء الشكوك والأوهام ، ولكنها تظهر قوية واضحة عند الشدائد . قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُم مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُم مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } . وقال سبحانه : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا . أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً . أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } ، حتى فرعون حينما { أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } .
وقد نبهنا الرسول ( إلى أن نعرف الله في وقت اليسر فيعرفنا عند العسر . قال ( : ” اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة ” .
أما الإيمان باليوم الآخر فإن أكثر الماديين ينكرونه ، وإن كان بعضهم يؤمن بالله إيمانًا مبهمًا ، وقد تحدث إلي أستاذ جامعي مشهور فقال : إنه يؤمن بالله ؛ لأنه يلمس آثاره في نفسه وفي جميع العوالم المحيطة به ، أما البعث والنشور فهو – منهما – في شك مريب ؛ لأن عقله لا يتصور أن تعود الحياة إلى جثة بالية أكلها التراب . وقد رأيت من الخير أن أوجز الرد عليه في هذا المقال :
أولاً : أن العقل البشري محدود في نطاق الزمان والمكان والتجارب الحسية ، فلا يصلح أساسًا لاقتحام عالم الغيب . فلو قال قائل : منذ قرنين : إننا سنصل إلى القمر ونفتت الذرة ونرى ونسمع عن طريق شيء اسمه الأشعة اللاسلكية عبر آلاف الأميال لبادر العقل بتكذيبه ، وإلى هذا تشير الآية الكريمة : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } .
ثانيًا : إن الإيمان بالله وحكمته وقدرته وعدالته تقتضي الإيمان باليوم الآخر ؛ لأنه سبحانه لا يعبث ولا يلهو : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } ، { أَيَحْسَبُ الإنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى } ؟
إننا لو شاهدنا مهندسًا قديرًا يبني ثم يهدم ما بناه ، ويعمر ثم يخرب ما عمره ويبرم ثم ينقض ما أبرمه لحكمنا عليه بالجنون ، فكيف يتصور عاقل أن إلهًا حكيمًا قادرًا عليمًا خلقنا ليدمرنا وأوجدنا ليمحونا من الوجود ؟ قال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } ، وقال سبحانه : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } .
ثالثًا : إننا مخلوقون من التراب كما أنبأنا الله وكما أثبت العلم الحديث ، فلو أخذنا بشرًا سويًا ، وحللناه في المعمل الكيماوي لوجدناه مكونًا من ثمانية عشر عنصرًا تقريبًا من مادة الأرض من كربون وفسفور وكالسيوم . وقد أخذ الله هذه القبضة من التراب فخلقها وسواها ونفخ فيها من روحه ، فإذا هي بشر سوي عاقل مفكر ، فإذا أعادها إلى التراب فلن يعجزه أن يعيدها مرة ثانية إلى الحياة . قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } .
رابعًا : أن الصانع الذي اخترع آلة معينة يسهل أن يعيد صناعتها بإتقان ، والله الذي فطرنا أول مرة قادر على أن يعيد خلقنا مرة ثانية ، وإن التشبيه مع الفارق لأنه لا شيء يوصف بالصعوبة أو السهولة أمام قدرة الله ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } ، وقال سبحانه : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } . وقال سبحانه : { قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .
خامسًا : إننا ن