كتب السيرة
بين القبول والرفض
بقلم: محمد عبد اللَّه السمان
في موجة الاحتفال بذكرى المولد النبوي، هذه البدعة التي فرضت علينا فرضًا، وأكرهنا عليها إكراهًا، بعد أن أصبحت أشبه ما تكون بالعقيدة الراسخة التي ليس من السهل زحزحتها عن مكانها من أذهان العامة قيد أنملة،وهذا شأن العامة في تشبثهم بكل بدعة، ولا سيما المتدينون منهم بلا فقه أو علم، في هذه الموجة العارمة من الاحتفال بالمولد النبوي، نجبر على أن تصدع أدمغتنا بمقتطفات من كتب السيرة، نسمعها من الإذاعة ومن خطباء بعض المساجد، أو نشاهدها على شاشة ( التليفزيون ) أو نقرأها في بعض الصحف والمجلات، هذه المقتطفات أقل ما توصف به، أنها غثاء وهذيان وخرافة، لا تسئ إلا إلى السيرة الطيبة، ولا تشوه إلا معالمها المشرقة، فوق أنها تستخف بعقولنا، وتسخر من أفهامنا، وتجترئ على كل منطق سليم..
في الليلة الثانية عشرة من شهر ربيع الأول الماضي، أذاعت محطة ( صوت العرب ) ساعة كاملة عن السيرة المحمدية- على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- وعلى مدى هذه الساعة الكاملة لم نسمع من السيرة شيئًا ذا بال، لأن معظم ما سمعناه سيرة ملفقة استطاع واضعوها- منذ قرون عديدة- أن يخدعوا بها أنفسهم، ويخدعوا معهم السذج والبسطاء، والحق أن الجزء الأول من السيرة، والخاص بالفترة ما بين ميلاد الرسول حتى بعثته، هو الذي تحمل القسط الأوفر من الحشو والتلفيق،وخلاصة ما سمعناه من برنامج صوت العرب، أن آمنة بنت وهب حين حملت برسول اللَّه قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وقع على الأرض فقولى: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، ثم سميه محمدا، ورأت حين حملت به أنه خرج منها نور رأت به قصور بصرى من أرض الشام.. ولما وضعته خرج معه نور أضاء له ما بين المشرق والمغرب، ثم وقع جاثيًا على ركبتيه، معتمدًا على الأرض بيديه، ثم أخذ قبضة من تراب وقبضها ورفع رأسه إلى السماء ثم أهوى ساجدًا..
ونقل المذيع- غفر اللَّه له- إلى أسماعنا- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد محتونًا مكحولاً، وفي الشهر الأول من ولادته زحف على بطنه، وفي الشهر الثاني حبا، وفي الشهر الثالث مشى، وفي الشهر الرابع نطق بكلام مفهوم، وفي الشهر السادس حمل السهام، وهكذا. وفي المهد، كان عليه السلام يناغي القمر ويشير إليه بأصبعه، فحيث ما أشار إليه مال، كان يحدث القمر والقمر يحدثه،ويلهيه عن البكاء.
* * *
كذلك نقل المذيع إلى أسماعنا قصة المرأة التي تعرضت لنكاح عبد اللَّه بن عبد المطلب، هذه المرأة من بني أسد، رأت عبد المطلب آخذًا بيد عبد اللَّه، فقالت له حين نظرت إلى وجهه: أين تذهب يا عبد اللَّه؟ قال: مع أبي، قالت: لك مائة من الإبل إن وقعت علي الآن.. قال: أنا مع أبي ولا أستطيع خلافه، ولا فراقه.. ثم ذهب عبد المطلب بابنه حتى أتى به وهب بن عبد مناف، فزوجه ابنته آمنة، فوقع عليها، فحملت برسول اللَّه، ثم خرج من عندها فأتى المرأة التي عرضت عليه ما عرضت، فقال لها: ما لك لا تعرضين عليّ اليوم ما كنت عرضت على بالأمس؟ قالت له: فارقك النور الذي كان معك بالأمس، فليس لي بك اليوم حاجة..!!
وما أكثر ما سمعنا على مدى ساعة كاملة من الغثاء المثير للأسى والضحك معًا،وقد يقول قائل:
ما ذنب المذيع إذا كان قد قال ما قال نقلاً عن كتب السيرة التي بين أيدينا، وتزدحم بها مكتباتنا، ولا تزال تؤثر في جيل بعد جيل؟
ونحن نقول لهذا القائل:
إن اللائمة تقع على المذيع، لأنه أساء الاختيار والنقل بلا تحفظ من كتب السيرة، وكان في استطاعته أن يكلف من هم أقدر منه في حسن الاختيار والنقل، فليس من المعقول أن نصدع أدمغة المستمعين بغثاء يسئ إلى سيرة الرسول عليه السلام، وندع مبادئ الدعوة التي حملها إلى الناس، ونذر أخلاقياته العظيمة، التي تصلح مدرسة للتوجيه والتربية في مجال القيم والمثل العليا.
ويشترك مع المذيع في هذا الإثم، الإذاعة نفسها، أليس من العار أن تكون في الإذاعة لجنة لمراجعة النصوص، يهمها في المقام الأول الأغاني والتمثيليات والمسرحيات، ولا يهمها العطاء الإسلامي على أية درجة كانت؟ وإذا فرض أن لجنة النصوص ليس فيها مختصون بالشئون الدينية، فأين ذهبت مراقبة الشئون الدينية بالإذاعة؟ لا بد أن هناك من مقدمي البرامج أشخاصًا لا تخضع برامجهم للمراجعة.. !
والمسألة لم تنته بعد.. !
فالإذاعة وغيرها من وسائل الإعلام لن تكف عن إذاعة ما يسئ إلى سيرة الرسول- صلوات اللَّه وسلامه عليه- ولا سيما في موجة الاحتفالات الموسمية التي تتكرر في العام الواحد، لأن وسائل الإعلام تخلو عادة من لجان متخصصة تراجع كل ما يكتب وكل ما يقال، بشرط أن يتوافر لهذه اللجان الثقافة والشجاعة معًا.. لقد شاهدت بنفسي برنامجًا تليفزيونيًا دينيًا تقدمه مذيعة تتظاهر بالتصوف وفي هذا البرنامج قيل للمشاهدين قصة البعير الذي فر من صاحبه- قبيل ذبحه- ولجأ إلى رسول اللَّه باكيًا يشكو إلي