ماهى علوم الدين
التى يقصدها الغزالى في كتابه ” إحياء علوم الدين”؟
للدكتور إبراهيم هلال
( 2 )
وعلم الباطن، أو علم الدين الذى يقصده الغزالى هو كما يعرفه، عبارة عن نور يظهر في القلب عند تطهيره من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة: ( كان يسمع من قبل أسماءها فيتوهم لها معانى مجملة غير متضحة ) فتتضح بذلك النور حتى تحصل المعرفة الحقيقية، وتلك الأمور التى يعنيها الغزالى هى الغيب الذى استأثر الله بعلمه، ولم يخبرنا به إلا سماعاً بالقرآن الكريم، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وطلب منا الإيمان بها على ذلك، ومدح المؤمنين بها فقال: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} إلى أن قال: {أولئك على هدى من ربهم، وأولئـك هم المفلحون}.
هذه الأشياء التى استأثر الله بعلمها على التفصيل، يدعى الغزالى أن ذلك ممكن لأهل التصوف أهل الباطن ويدعو إلى الوصول إليه، فيقول بعد ماتقدم: (حتى تحصل المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه وبصفاته الباقيات التامات … والمعرفة بمعنى النبوة والنبى، ومعنى الوحى ومعنى الشيطان … والمعرفة بملكوت السموات والأرض … وعذاب القبر، والصراط والميزان والحساب … الخ ) فكأنه يرفض اخبار القرآن الكريم، والحديث الشريف بذلك، ولا يقتنع، ولا يؤمن بحديث الكتاب والسنة عن هذا وذلك لأن التصوف أعماه، واتجاه الفلسفات الوثنية القديمة غلب عليه، فجعل الكشف الذى يدعيه، هو الطريق عنده إلى الإيمان بالله وباليوم الآخر، وما يتصل بهما من سمعيات ممثلة في ذلك مثل قوم موسى حين ارتدوا وقالوا: {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون} فهو لا يريد أن يؤمن بالغيب ذلك الإيمان الذى أراده الله منا ومدح المؤمنين به، بل لا يريد أن يؤمن إلا بعد المعاينة، كما صرح بذلك في أكثر من مكان، وهذه هى صفة الشكاك، وقد كان شاكاً حين كتب هذا التصوف من أوله إلى آخره، كما تحدث بذلك عن نفسه في كتابه ” المنقذ”: ” المهلك” من الضلال أو المردى في الضلال، وليس منقذا منه، لأن المنقذ الوحيد هو القرآن الكريم.
فشخص هذا شأنه بالطبع أن يشك في القرآن بعد أن شك في الله، ولا يراه له طريقاً إلى الهداية، فيعرض عن قوله تعالى: ( وأن هذا صراطى مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) فليسلك الطريقة الانطوائية، طريقة استبطان النفس والتخيل والتكهن طريقة الحلم والغيبات الوثنية التى ترى الحلم هو الفيصل في ذلك، وإن كان باستهواء الشياطين وايحائهم، وهذه هى طريقة الكشف، أو المشاهدة التى يقول بها الغزالى وغيره من الباطنية والمتصوفة، وذلك لأنهم يعقدون صلة بين النفس وبين القوى الطبيعية، والقوى الكونية الغيبية، وهى الملائكة أو العقول والروحانيات كما يسمونها، والجن والشياطين وأنها بينها وبينها مناسبات، من شأنها أن تأخذ النفس الإنسانية عن هذه الغيبيات إذا سارت النفس في طريق الرياضة، أو تصقيل نفسها.
فجهد الصوفى كما يقول الغزالى، إذا أراد أن يكتسب العلم اللدنى أو يصل إلى مستوى المشاهدة – أن يعمل على تصقيل النفس وجلائها وهم يجعلونها بعد تمام الصقل، أو في نهاية الرياضة والمجاهدة، كالمرآة التى انجلت وصقلت، وأصبحت تعكس ما أمامها، فالنفس عندهم إذا وصلت إلى ذلك، انعكس فيها النور الإلهى كما يدعون، أو العلم الذى يوجد في نفوس الملائكة، وفي اللوح المحفوظ وهذا جرأة من الغزالى على تعدى حدود الله، وإهمال ما جاء في القرآن الكريم من قوله تعالى: {ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء} ولا يشاء إلا بوحى، ورسول، كما قال في قرآنه: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول، فإنه يسلك من بين يديه، ومن خلفه رصداً، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شئ عدداً}.
فهو يتجاهل هذه الآيات القرآنية، ويدعى أن كل ما كان، وما هو كائن قد احتوته العقول، أو اشتملت عليه نفوس الملائكة، فإذا وصلت النفس الإنسانية إلى حالة الصقل، أو الكشف، كانت بهذا مؤهلة لأن تحاذى هذه النفوس، أو الملائكة، أو تصل إلى مستواها وتكون في حكمها ملائكة مثلها، فتتحاذى معها كما تتحاذى المرآة أمام المناظر التى يراد إنعكاسها عليها، وحينئذ تشرق فيها العلوم والمعارف التى عند الملائكة، أو في نفوسها، وهذه هى عملية الكشف أو المشاهدة التى يشيد بها الغزالى، وملأ بها هو وأقرانه من المتصوفة بطون الكتب والصحف كفراً وتضليلاً، وهنا فليس الله عند الغزالى هو الذى يظهر الإنسان ” النبى أو الرسول” على غيبه، وإنما الإنسان هو الذى يكشفه ويشاهده بكل جرأة، ودون استئذان على علم الله، وأخذ منه دون أن يدرى من ذلك الذى يكشفه أو يشاهده، أو يشاهد علمه … تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً..
هذه هى علوم الدين عند الغزالى، وهى التى قصد إحياءها ( بإحيائه )، وليس