علامات ضوئية على طريق الدعاة
بقلم الدكتور محمد جميل غازي
– 2-
ولقد قدم القرآن الكريم- من خلال آياته البينات- ” وصايا جامعة” توجه الدعاة إلى الأسلوب الأمثل، والمنهج الأفضل، الذي لو التزموا به في سلوكهم العلمي والعملي لنجحوا أعظم نجاح في أداء الأمانة التي ناطها اللَّه بهم، والالتزام بالميثاق الذي واثقهم اللَّه به.
وفيما يلي- عشر آيات- نقدمها لجماهير الدعاة لتكون بين أيديهم ” علامات ضوئية” تهدي وترشد وتضئ.
* * *
الآية الأولى
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} سورة البقرة- الآية 44
. تقرر هذه الآية الكريمة، أن الداعية إذا لم يطابق فعله مع قوله وإن لم يتوافق واقعه مع منطقه، فإنه يسئ أكثر مما يحسن، ويضر أكثر مما يصلح، بل ربما كان سببًا في إشاعة المروق والفسوق والمعصية بين الناس. لأن بعض الناس يقولون: لولا أن هذا الداعية يعلم في قرارة نفسه أنه لا وزن لزواجره ومواعظه وتخويفاته، لما أقدم على ما أقدم عليه من مقارفة للمناهي والمفاسد والمنكرات.
. يقول ابن القيم: علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم.
عذاب العالم مضاعف
. ويضاعف عذاب العالم من عذاب غيره إذا عصى اللَّه، لأنه إنما عصى عن علم، وقد قال اللَّه تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ }؟
كذلك، فإن العالم قدوة، وإذا زل أو ضل، زل بزلته، وضل بضلاله خلق كثير، كما قيل: زلة العالم، زلة العالم ! ( العالم الأولى بكسر اللام والثانية بفتحها ).
وكما قال اللَّه تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ}.
. وقال أبو الدرداء رضي اللَّهُ عنه: ” ويل للجاهل مرة، وويل للعالم سبع مرات” !!
. وقال علي رضي اللَّهُ عنه: ” قصم ظهري رجلان، عالم متهتك، وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس بنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه”.
. وقال حكيم: ” أفسد الناس جاهل ناسك، وعالم فاجر، هذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه، وهذا ينفر الناس من علمه بفسقه”.
. ولقد روى مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد رضي اللَّهُ عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: ” يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه- الأقتاب: الأمعاء. واحدها قتب، ومعنى فتندلق: فتخرج- فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان، مالك، ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول بلى، كنت آمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه”.
قال القرطبي- معقبًا على هذا الحديث الشريف-: فدل الحديث الصحيح على أن عقوبة من كان عالمًا بالمعروف وبالمنكر، وبوجوب القيام بوظيفة كل واحد منهما أشد ممن لم يكن يعلمه وإنما ذلك لأنه كالمستهين بحرمات اللَّه تعالى، والمستخف بأحكامه، وهو ممن لم ينتفع بعلمه.
قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ” أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللَّه بعلمه” أخرجه ابن ماجة في سننه.
. وهذه الآية الرابعة والأربعون من سورة البقرة ومثيلاتها، هي التي جعلت كثيرًا من علماء السلف يتورعون عن الإكثار من المواعظ.
يقول إبراهيم النخعي: ” إني لأكره القصص لثلاث آيات: قوله تعالى:
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}: وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وقوله إخبارًا عن شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
. ولقد كان السلف رضوان اللَّه عليهم يفهمون أن الوعظ بالأعمال أجدى من الوعظ بالأقوال، حتى قال قائلهم: عمل رجل في ألف رجل، أبلغ من قول ألف رجل في رجل.
أينا يفعل ما يقول؟
. وهنا سؤال يراود كل داعية ويلح عليه، حينما يقف على هذه النصوص دارسًا متأملا.
– هل معنى هذه النصوص أن يترك الداعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى يصل بنفسه إلى الأخلاق الفاضلة، والطهارة الكاملة؟
. ويجيب على هذا التساؤل جمهرة من علماء السلف وأئمتهم.
فيقول سعيد بن جبير- فيما يرويه مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن- قال سمعت سعيد بن جبير، يقول: ” لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر”.
قال مالك: من ذا الذي ليس فيه شيء؟
. وقال الحسن لمطرف بن عبد اللَّه: عظ أصحابك، فقال إني أخاف أن أقول ما لا أفعل، قال: يرحمك ال