من روائع الماضي
عبرة الهجرة
كتبه الشيخ: أبو الوفاء محمد درويش
( رحمه اللَّه )
ما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بدعـًا من الرسل في هجرته من مكة إلى يثرب ؛ فقد هاجر من قبله الأنبياء ، هاجر إبراهيم أبو الأنبياء إلى الأرض التي بارك اللَّه فيها ، وهاجر لوط عليه السلام من القرية الظالم أهلها حين أراد اللَّه أن يجعل عاليها سافلها ويرسل عليها حجارة من سجيل ، وهاجر يونس عليه السلام لما رأى إصرار قومه على الباطل وتماديهم في المنكر ، وهاجر موسى ر من مصر مع بني إسرائيل ، حين أراد اللَّه أن يأخذ فرعون وقومه نكال الآخرة والأولى ، وهاجر يعقوب والأسباط إلى مصر يوم جعل اللَّه يوسف عليه السلامعلى خزائن الأرض يلتمسون وطنـًا صالحـًا فيه الخصب وفيه لين العيش ، وهاجر صالح من ديار قومه حين تأذن اللَّه ليرسلن عليهم العذاب الأليم ، وهاجر هود عليه السلام يوم أرسل اللَّه على قومه الريح العقيم .
وتلك سنة من سنن اللَّه لن تتحول ولن تتبدل ، وما من نبي إلا عاش غريبـًا في أمته ، ثم رد اللَّه غربته ، وليس الغريب من يعيش في مكان قصيٍّ ناءٍ عن أهله وسكنه وأولي قرابته ، بل الغريب من يعيش في مسقط رأسه بين أهله وعشيرته ، ولكنه لا يجد من بينهم من يشاكله في دين ولا عقيدة ولا خلق ولا فكرة ولا نظرة إلى الحياة .
الغريب من قضت عليه صروف الدهر أو تكاليف الحياة أو ضرورة العيش أن يعيش بين قوم ينكرون عليه عقيدته الصحيحة ودينه القويم وعلمه الحق الكريم ومواهبه التي اختصه اللَّه بها ، واللَّه يختص برحمته من يشاء وهو ذو الفضل العظيم .
عاش النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أربعين سنة وهو يحس الوحشة ويألم للغربة في بلده وبين ظهراني أهله وعشيرته لما كان يرى منهم ما يجافي الفطرة السليمة وينبو عنه العقل الكامل الرجيح ، ولكنه كان يكبت شعوره ويكظم ألمه ، ويلقاهم بالوجه الطلق والنفس الرضية المطمئنة والبشر الذي يلين أقسى القلوب ، ولهذا كان موضع إكبارهم وإجلالهم وثقتهم ومشورتهم ، وكانوا يدعونه الصادق الأمين ، لما اختصه اللَّه به من الخلق الكريم والشيم الرفيعة والسجايا النبيلة .
كان ينكر عليهم – في نفسه – إسفافهم في عقائدهم وإخلادهم إلى عبادة ما صنعت أيديهم أو أيدي أمثالهم من أصنام وأوثان لا تحس ولا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئـًا .
كان ينعي عليهم تورطهم في كبائر الإثم والفواحش ؛ لأن فطرته السليمة التي فطره اللَّه عليها لم تكن تسكن إلى ذلك ولا ترضاه ، بل كانت تنفر منه أشد النفور وتشمئز كل الاشمئزاز ، ولكنه لم يكن يعلن إنكاره ونفوره واشمئزازه ؛ لأنه ما كان يريد أن يسيء إليهم ولا أن يؤذيهم ، ولا أن يطعن في دينهم وعاداتهم وما كانوا يعتقدون ، وكان يكتفي من الإنكار بالبعد عنهم وعدم مشاركتهم فيما لا يرضى ، كان يعاملهم معاملة الغريب الحازم الأريب إذا حل دار قوم يخالفونه في عاداته وأحواله ، ويخالفهم في دينهم وعقيدتهم ، يضمر إنكاره في نفسه ، ولا يظهر اشمئزازه من عاداتهم السيئة ، ولا يبدي اعتراضـًا على سلوكهم الشائن ، بل يعاشرهم أجمل معاشرة ويبذل لهم من الود والإحسان والمعروف ما يحله من قلوبهم في مكان الإجلال والإكبار .
فلما ضاق ذرعـًا بهذا الباطل الذي لم يستطع حيلة لدفعه ولم يهتد سبيلاً لكفاحه ، وعلم أن الحق غير ما عليه أهله ، ولكنه لم يعرف مكانه ، طفق يلتمسه في العزلة والخلوة والتأمل ، فكان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد ، يفر مما يكره ، ويبحث عما يحب ، حتى جاء الحق من ربه وبعث إليه الملَك الذي كان يبعثه إلى الأنبياء والمرسلين من قبله ، فثلج صدره ، وقرت عينه ، وأحس بَرْد اليقين وغمرته أنوار الهداية .
ثم كلفه اللَّه تعالى أن يصدع بما يُؤمر ، وأن يعرض عن المشركين ، فأظهر لهم ما كان يخفي عليهم ، وأبدى ما كان يكتم ، وقال لهم : (( إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )) ، { إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ @ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ } [ الصافات : 4، 5 ] ، { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ @ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ الأعراف : 194، 195 ] .
وتحداهم بكتاب كريم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، بهرهم بروعة أسلوبه ، وحسن بيانه ، وقوة حجته ، وسمو بلاغته ، وإخباره بالغيب ، فرموه بالكذب والسحر والجنون ، وسموا كتابه أساطير الأولين ، وقالوا : إنما يعلمه بشر ، فرد اللَّه على كل فرية رموه بها ، وأبطل كل إفك قذفوه به ، وقال : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَ جِئْنَاكَ