طلب العزة
بقلم أحمد طه نصر
((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر: 10]. في تعاليم هذا الكتاب العزيز وفي قوة بيانه وبالغ حجته وسلامة منطقه تتبين آيات من الهدى، وتتفتح جنبات من الخير وتدوي هواتف الحق معلنة بإشراقة مجلية ناطقة بالحكمة وفصل الخطاب. ينادى هذا القرآن العظيم طلاب العزة فيبصرهم بأسبابها ويسايرهم في نواحيها، ويضع على منافذ عقولهم وقلوبهم مناور الهدى والرشاد.
إن العزة لله جميعاً. ومن مظاهر تفرده سبحانه بالعزة الكاملة أن جميع قوى السموات والأرض جنود مسخرة لتنفيذ إرادته، خاضعة لعزته ((ْوَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)) [الفتح: 7]. ومنها أنه منفرد بالقوة والغلبة منزه عن الذل والضعف، فإن أراد بأحد خيراً فلا مانع له، وإن أراد به سوءاً فلا دافع له ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم)) [فاطر: 2]. بل هو المدبر في ملكه وملكوته ليس له شريك يشاركه في أمره ونهيه أو خلقه ورزقه ((قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [سبا: 27].
ولو أن الناس قدروا عزة الله ما لجأ لاجئ إلى غيره، ولا دعا داع سواه ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)) [الحج: 74] سبحانه يعز من يشاء. ولا يعز إلا أحبابه الذين أخلصوا له الدين ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [آل عمران: 26] فمن اعتز بغيره ذل. ولا يليق بمؤمن أن يذل لمخلوق مهما تكن الأسباب، أو تنزل به الأهوال بل الجدير به أن يخلص الضراعة والعبودية للملك العزيز.
وإن كان بعض المسلمين بعد أن فرطوا في جنب الله ولم ينهضوا بأنفسهم وحقوق أممهم، وتركوا سنن الحياة اتجهوا إلى أعدائهم أذلاء صاغرين، وتابعين مقلدين ((الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)) [النساء: 139] وأكثرهم لجئوا إلى الموتى من أوليائهم.وإنه لتتقطع نفس المؤمن حسرات حين يرى هؤلاء عاكفين على أضرحة تضم الرفات الرميم، والجثث الهامدة يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات، وذلك هو الشرك الذي أذهب عنا العزة،وجلب علينا الذلة، وجعل لأعداء الله وأعداء الدين السبيل على بلاد الشرق والمسلمين، يتدخلون في شئونهم ويتحكمون في أمورهم. ولو آمنوا لعلموا يقيناً أن الإخلاص لله تعالى وإفراده بالعبادة سبب في الاستخلاف في الأرض والفوز بعز الدنيا ونعيم الآخرة ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا)) [النور: 55].
فمن كان يريد العزة في الدنيا، أو في الآخرة، أو يريدها فيهما جميعاً فليطلبها عند الله فهو وحده مالكها وواهبها. العزة أن تكون كلمة الله هي العليا، ودينه الغالب. العزة هي الجهاد في سبيله حتى يتم الفتح والنصر من عنده. العزة هي الاستغناء عن الأعداء والاعتزاز بالله وحده. العزة هي الاعتماد بعد الله على مقومات الحياة والاستقامة على الحق. والله يتوعد المخالفين لتحقيق هذا بقوله سبحانه ((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ)) [آل عمران: 4].
ومن عز الدنيا اجتماع الكلمة على الحب. ومنشأ ذلك ومرده صدق الصلة بالله وإجلاله وتقواه. فالعبادات كلها روحية وبدنية ومالية أسباب تتوثق لتمكن العابد والمطيع من عزة يتسع أفقها وتسمو غايتها.
فمقيم الصلاة عزيز لأنه يطرح وراء ظهره عوامل الفتنة ومظاهر الإغراء،ويستقبل بوجهه روحانية عالية، فما يكاد ينطق بلسانه ((الله أكبر)) حتى يدخل في هذه الحظيرة القدسية إلى كنف هذا العلي الكبير، ويحتمي في جلال القوي العزيز، وينعم بالقرب من هذه العزة الغالبة التي تتغشاه وتتولاه. وحديث رسولنا صلى الله عليه وسلم (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد).
أما المنفق في سبيل الله زكاة أو صدقة فإنه لذلك عزيز، لأنه يقوم بأمر الله خليفة في إطعام المحروم وغوث الملهوف. والله يقول ((ءَامِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا