دكتور عبد الكريم وهبة
علم النفس الكلنيكي
عضو الهيئة الدولية
A . P . A . U . B . A
سيكلوجيا الغضب أو تحليل الغضب نفسيًا
الغضب ظاهرة طبيعية :
بدأت حيث بدأت الخليقة ، وهي مظهر من مظاهر جيشان الإنفعال ، في الجهاز النفسي ، والجهاز الجسمي ، والأوعية التي تجمع بينهما ، كالأعصاب الإرادية ، وغير الإرادية .
ولهذه الظاهرة أضرارها ، إذا لم تكبح جماحها ، أو يهدأ أوارها باعتدال .
أما إذا تحول هذا الاعتدال إلى كتب ( قهر النفس ) Pressing Case ، فهنا الطامة الكبرى .
أما إذا لم يتعد القهر درجة الكظم Supressing فهو حلم كله خير . [ مدح اللَّه سبحانه وتعالى الكظم بقوله في حق أهل الجنة : { والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس } ] .
والفرق بين الكتب ، والكظم ، ينشأ عادة من قوة احتمال النفس (( المعروفة علميًا بـ ( الأنا ) فإن كانت ضعيفة تلجأ إلى الكتب الذي يضيرها ، وإن كانت قوية تلجأ إلى تعدي الانفعال أو إلى الكظم ، وهما لا يضيرانها …
الإنسان السوي :
وهو ذو الشخصية المتكاملة (( جسميًا ونفسيًا )) – انظر إلى قوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } – إذا غضب عدل غضبه ، أو كظم غيظه لأن نفسه تعلم أن الغضب يفقد قوة مقاومتها على أحداث الحياة ، ويصبح الإنسان فريسة للأمراض ، وألعوبة هوجاء بين الانفعالات المتأرجحة ، وفي ذلك يقول الرسول عليهه الصلاة والسلام لصحابته : (( ما تعدون الصرعة ( المصارع ) فيكم )) قالوا : الذي لا تصرعه الرجال . قال : ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب )) .
والحلم سكينة من اللَّه وهبها لعباده الصالحين ، فلا يعرف الإيمان الصحيح نفسًا هوجاء تلعب بها الأهواء ، وخنس شياطين الإنس والجن ، ذات حمية جاهلية لا تعير القيم والمثل أي اعتبار ، قال تعالى : { إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } الفتح آية 26.
المظاهر الفسيولوجية للغضب :
وجد الباحثون طبيًا أن القلب يدق حين الانفعال ما بين 120- 140 دقة ( أي في الدقيقة الواحدة ) ، بيد أنه يدق عادة 60- 80 دقة، وكثيرًا ما ينوء القلب بهذه الضربات ، لا سيما إذا كان صاحبه مريضًا ، فيسقط الغاضب فاقد النطق ، أو مغمي عليه ، ويرتفع ضغط الدم ، وهو عادة 110 (مملم) إلى 180- 200 (مللم) ، ويتمدد جسم الإنسان وينشط نشاطًا غريبًا ، ويجند الطحال عددًا وفيرًا من الكريات الحمراء ، التي تمد الجسم بالأوكسجين لتزيد وقود الاحتراق ، وتتسع مجاري الدم كأنها مجاري الأنهار عندما تهطل عليها الأمطار ، والكبد يمد الجسم بالسكر إذ هو ميدان معركة الانفصال فيزيد بنسبة 20% تقريبًا ، ويتسلح الجسم بقوة عنيفة ، وانظر إلى الشاعر العربي حيث يقول :
إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو تمطر الدما
فنرى الغاضب لا يحس تعبًا من ضرباته المتكررة ، ولا يحس الما من جروحه الدامية تعبًا ، بل ويقوم الجسم بمهمة العلاج ، فيسد الجروح فتلتئم بتجبن الدم عند مخارجه ، ولكما زاد الغضب زاد الجسم نشاطًا في العراك الخارجي ، وزاد شفاء للنفس المغيظة ، وفي ذلك يقول عنترة العبسي أحد شجان العرب :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمهــا قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
من ذلك نرى أن الغضب ضروري ، في الحروب على الأخص ، فما انتصر جيش لم يغضب على عدوه ، وما انتصر مبارز أو مناجز في ميدان معركة لم يشعله وقود الغضب نيرانًا على من يبارزه أو يناجزه .
وتلك أمثلة واضحة قديمة ، وجديدة في حروبنا عبر الزمن السحيق ، فلا حاجة إلى سرد الأدلة فهي معروفة .
الغضب والتكوين الفسيولوجي للجسم :
ومن البلاهة أن نطلب من الناس أن يغضبوا الأمر ما بدرجة واحدة ، نظرًا لاختلاف التربية ، فالرجل ( الإسكيموا ) لا يغضب إذا رأى رجلاً من امرأته في سرير واحد ، بل يسر سرورًا جزلاً ، ومثله الشيوعي والوجودي والخنفس ، وبعض رجال الفن . ( من مدة ذكرت إحدى الجرائد أن مخرج إحدى الروايات السينمائية ظلت زوجته تحت المثلة الممثل يبادلها القبل أكثر من أربع ساعات ليختار قبلة يصورها … إلخ ) .
ونظرًا لاختلاف المقومات الجسمية في الإنسان فهناك (( الانفعالي )) واللاانفعالي بحسب سيادة ببعض الأجهزة في الجسم ، فإن ساد جهاز ( الليمف ) كان صاحبه هادئًا فطريًا ، وإن ساد الجهاز العصبي كان صاحبه عصبيًا ، وإن ساد جهاد الدم كان صاحبه دمويًا ، وهناك أيضًا معدلات غير غددية تزيد هذا لهيبًا ، أو ذاك تبريدًا ، ولذلك نعمد نحن علماء النفس إلى تقسيم الغضب إلى الأقسام الآتية :
1- الغضب الأبيض