سورة الفاتحة، ومكانتها من القرآن الكريم
– 7 –
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
6 و 7 (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين).
أول دعوة علمنا الله أن نتوجه بها إليه وحده – طلب الهداية إلى الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم، وغير الضالين.
وقد وصف الصراط في الأولى بالاستقامة ، فهو وصف ذاتي له، ثم وصفه ثانيًا وصفًا عرضيا باعتبار سالكيه، المستقيمين عليه، الذين حازوا رضا الله ، وتجنبوا غضبه، وحفظوا من الضلال، وفي هذا من الإغراء به والإطـماع فيه ما يدفع بالناس إلى تلبسه، والاستقامة عليه.
والقرآن – بهذا – يتبع منهجا مزدوجًا، يجمع بين القيم الذاتية والقيم العرضية للأخلاق والسلوك، منهج القيم الذاتية الذي يخاطب الضمير، يدعو إلى الفضيلة باسم الفضيلة، مصورا ما فيها من جمال واعتدال، وينهى عن الرذيلة باسم الرذيلة مبينًا ما فيها من دنس وانحراف، ومنهج القيم العرضية الذي يخاطب العاطفة، يرغب في الفضيلة. وينفر من الرذيلة باسم المصلحة الحقيقية، ويحكم النظر إلى عواقب الأمور وآثارها في العاجل والآجل ويضرب لذلك الأمثال الكثيرة، ويقص من أجل ذلك السير التاريخية في مختلف العصور.
والعجيب من شأن سورة الفاتحة أنها على فرط إيجازها قد انتظمت المنهجين جميعًا في كلمتين، ذلك أنها حين حببت إلينا طريق الفضيلة بينت لنا أولاً قيمته الذاتية، فوصفته بالاعتدال والاستقامة: (الصراط المستقيم) ثم بينت ما في عاقبته من نفع وجدوى، فوصفته بأنه الطريق الموصل إلى رضوان الله ونعمته، وأشارت في الوقت نفسه إلى مثله التاريخية في سيرة أهله الذين نصبوا أنفسهم القدوة الحسنة (صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. ثم لم تكتف بذلك، بل وضعت معيارا لانواع الطرق المنحرفة، فبينت أن الانحراف على ضربين: انحراف عن قصد وعلم، عنادا واستكبارا، واتباعا للهوى، وهذا هو طريق (المغضوب عليهم) الذين رأوا سبيل الرشد فلم يتخذوه سبيلا ، ورأوا سبيل الغي فاتخذوه سبيلا، وانحراف عن جهل وطيش. وهذا هو طريق (الضالين) الذين لا يتوقفون عند الشك، بل يقتفون ما ليس لهم به علم، فيخبطون خبط عشواء دون تثبت ولا تبصر.
لا ريب أن كلا الضربين مذموم، و إن كان بعضهما أسوأ من بعض: للعالم المنحرف مأزور، والجاهل المنحرف غير معذور، والعالم المستقيم هو المبرور المأجور.
هذه المشارب الثلاثة تجد دائمًا أمثلتها في الناس، لا في الخلق والسلوك فحسب، بل في كل شأن من الشئون: في الاعتقاد والرأي والتعليم والإخبار، والفتيا، والحكم والقضاء، وهكذا جاء في الحكمة النبوية: قاض في الجنة، وقاضيان في النار: فالقاضي الذي في الجنة رجل عرف الحق فقضى به، واللذان في النار رجل عرف الحق فقضى بخلافه، ورجل قضى للناس على جهل.
وهذه الفرق الثلاث التي افترق إليها الناس في كل زمان ومكان أمام الصراط المستقيم: فريق الذين أنعم الله عليهم، وفريق المغضوب عليهم، وفريق الضالين ذكرتهم سورة الفاتحة إجمالا في آخرها. وقد جاء بيانهم تفصيلا في أول سورة البقرة التي تلي سورة الفاتحة في ترتيب المصحف.
فالصنف الأول: المؤمنون المتقون الذين اهتدوا بالقرآن الكريم، وهم الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وما أنزل من قبله وبالآخرة هم يوقنون، وهؤلاء الذين أنعم الله عليهم ورضي عنهم.
والصنف الثاني: الكافرون: (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) وهؤلاء هم المغضوب عليهم.
والصنف الثالث: المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطن، (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء)، (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون) (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) وهؤلاء هم الضالون المتحيرون.
فالعالم بالحق العامل به هو المنعم عليه، وهو الذي زكى نفسه بالعلم النافع، والعمل الصالح، وهو المفلح (قد أفلح من زكاها).
والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه.
والجاهل بالحق المنحرف عنه هو الضال.
والمغضوب عليه ضال عن هداية العمل، والضال مغضوب عليه لضلاله عن العلم الموجب للعمل، فكل منهما ضال مغضوب عليه، ولكن تارك العمل بالحق بعد معرفته به أولى بوصف الغضب وأحق به. ومن هنا كان اليهود أحق به، وهو متغلظ في حقهم، كقوله تعالى في حقهم :