رابعًا: روافد غريبة عن الإسلام
للأستاذ / عبد الكريم الخطيب
القرآن الكريم، والسنة المطهرة، هما- كما أشرنا من قبل، وكما هو معروف لكل مسلم- منبع هذا الدين، أعنى الإسلام.. فحقيقة الإيمان باللَّه، هو الإيمان بكتابه، والإيمان بكتابه يقتضى الإيمان بالرسول الذي أنزل عليه الكتاب، والإيمان بالرسول يقتضى التصديق بأقواله وأفعاله، فلا يكمل إيمان المؤمن إلا إذا جمع في قلبه الإيمان باللَّه وبرسوله، والعمل بما أنزل اللَّه، وما بين رسول اللَّه.
وعلى هذا، فان بين يدى المسلمين المنهج الكامل، والدستور المبين القائم أبد الدهر، الذي يقيمون عليه حياتهم، ويأخذون به خط مسيرتهم في كل شئونهم الأخروية والدنيوية جميعا.. وإن أي خروج على هذا المنهج، أو انحراف عن هذا الدستور، يفسد عليهم تلك الحياة بجانبيها- الأخروى والدنيوى- بقدر ما يكون منهم من خروج أو انحراف {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].
ولا يفهم من هذا، أن المنهج الذي رسمه الإسلام لاتباعه، والدستور الذي وضعه لهم، قد ألزمهم أن يكونوا آلات صماء، أو دمى متحركة، بحيث تلغى معه عقولهم، وتشل به حركة تفكيرهم.. فإن أمرا كهذا لا يكون من تدبير الحكيم العليم رب العالمين، الذي منح الإنسان عقلا، ودعاه إلى النظر به في ملكوت السموات والأرض، وجعل لهذا العقل مكانه وسلطانه في كيان الإنسان، يتعرف به الهدى من الضلال، ويميز به الطيب من الخبيث، والخير من الشر، والنور من الظلام.. تماما كالعين، والأذن، والأنف، واللسان، واليدين، والرجلين، وسائر الجوارح، وكلها في خدمة الإنسان، تؤدى وظيفتها التي خلقها اللَّه تعالى لها، وفي تعطيلها، أو تعطيل أي منها غباء من الإنسان، وظلم مبين لنفسه.. والعقل هو السلطان القائم على تلك الجوارح، يضبط حركاتها، ويفسر ايحاءاتها، ويتصرف في معطياتها.
لهذا رفع الإسلام من شأن العقل، ولفت ذوى العقول إلى عقولهم ودعاهم إلى الإمساك بها على الصحة والسلامة، وإلى سوقها إلى موارد العلم والمعرفة، وحراستها من الآفات التي تعرض لها، فتذهب بها جملة، أو تعطلها لحظة من لحظات الحياة.. وأنه ما حرم الإسلام ( الخمر ) وما أنزلها هذا المنزل الذميم بين الكبائر، إلا لأنها عدو راصد للعقل، يغتاله، يفسده، وإذا صاحبه يهذى هذيان المجانين، تتغاير في عينيه وجوه الأشياء، وتغيم في كيانه حقائق المعاني، فلا يميز بين خير وشر، ولا يفرق بين نافع وضار.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].. أنه لا فلاح أبدا لمن ضل عنه عقله، وغاب عنه وعيه، فأصبح بهيمة في يد الشيطان، يقوده إلى كل مهلكة، وقد وجد فرصته في عدوه المتربص به: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
العقل إذن، هو عين الإنسان التي يرى بها هذا الوجود، ويتعرف بها إلى حقائقه، ويهتدى بها إلى اللَّه، ويتعامل بها مع شرع اللَّه.
والعقل هو الشهادة على الإنسان بين يدى اللَّه تعالى في مقام المساءلة والحساب، وفي موقف الثواب والعقاب..
فهل يعقل- مع هذا- أن الإسلام، الذي جعله اللَّه جامعة رسالاته، وخاتمة دينه، والمصاحب للإنسانية على مدى الأزمان إلى يوم القيامة- هل يعقل أن يخلى مكان العقل من هذا الدين؟ كيف تكون حجة اللَّه تعالى على الناس، إن لم تكن بين أيديهم الشواهد الشاهدة على أن هذا الدين هو دين اللَّه، وأن هذا الكتاب هو كتاب اللَّه، وأن الرسول الذي جاءهم به هو رسول اللَّه؟ وأنه لا سبيل إلى شيء من هذا إلا بالعقل السليم والإدراك الصحيح، القائم على النظر والاستدلال.
والمعجزة التي يطلبها الناس لصدق الرسول، وصدق الكتاب الذي جاء به، لا بد أن تكون حاضرة بين يدى من يطلبها، وإلا فإنه إذا طلبها ولم يجدها، لم تقم عليه الحجة الملزمة، والسلطان المبين.
والقرآن الكريم هو المعجزة القائمة المتحدية على الزمن، للإنس والجن إلى أن تقوم الساعة.. وهذه المعجزة لا تدرك إلا بالعقل الذي ينظر في آيات اللَّه، بكل طاقاته، وبكل ما لديه من مدركات ومعارف.. {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْ