خواطر حرة:
8 شارع قوله !
سعدت بلقاء فضيلة الأستاذ رشاد الشافعي منذ بضعة أيام ، في مكتب صديق مشترك ، ودار الحديث حول بعض الأمور ، ثم تطرق إلى دعوة أنصار السُّـنَّـة ومبادئها .
قلت لفضيلته:
(إنني لم أنضم إلى الجماعة بعد ، ولكنني مقتنع تماما بأن التوحيد الخالص ، وتنـزيه الله سبحانه وتعالى ، ومحاربة الشرك الظاهر والخفي أول ما يجب أن يتوخاه المسلم الرشيد في ذات نفسه ، وفي خاصة أهله ، ثم في المجتمع بكافة طبقاته ) ، وأضفت قائلا: إنني نشرت مقالة أو مقالتين في الدعوة إلى التوحيد ، منذ خمسة أعوام ، ويسعدني أن أعرضهما على فضيلتكم).
قال الأستاذ الشافعي : (فلنلتق إذن في صلاة المغرب ، مساء اليوم).
وسألته : أين ؟
فقال: (بدار المركز العام للجماعة: 8 شارع قوله).
وتوجهت نحو الدار في الموعد المحدد ، ثم أذن المؤذن لصلاة المغرب ، فكان أول مظهر أعجبني أن وجدت كل من في الدار ، كبيرا وصغيرا ، يتجه إلى المصلى ، ويؤدي الصلاة في خشوع واطمئنان.
كنت في أول الأمر مضطربًا إلى حد ما ، لتواجدي في مكان أطرقه لأول مرة ، ولا أعرف فيه أحدًا ، فكان المظهر الثاني الذي راقني أنني كنت أستقبل بابتسامة حانية، من السادة الذين التقيت بهم ، على غير معرفة سابقة بيننا ، مما ساعد على تخفيف الاضطراب الذي داخلني في أول الأمر.
ووجدت أن الصوت الهادئ الخافت سمة غالبة بين الكثيرين. فإذا نسيها بعض الأعضاء وعلت أصواتهم قليلا أو كثيرا ، سرعان ما يرتفع صوت يذكرهم بالهدوء الواجب ، فيستجيب الجميع على الفور.
ثم كان المظهر الثالث الذي أعجبني ، وهو عدم التفرقة بين الأعضاء بعضهم وبعض ، التقيت بالأستاذ رشاد الشافعي وتحدثت معه ، واشترك في الحديث من تصادف تواجدهم بمكتبه في هذه الآونة من الأنصار ، ويعاملونه بها ما يشي بأنه (الرئيس العام للجماعة) ولولا أنني تسلمت منه خطابا رسميا يستوجب تحديد صفة الموقع عليه ما عرفت هذه الحقيقة.
تذكرت أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجلس حيث ينتهي به المجلس ، وكان الوافد الغريب لا يستطيع أن يميزه وهو جالس بين أصحابه ، فيضطر إلى السؤال عنه ويقول: (أيكم محمد؟) وكان عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه : (لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا . إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد ، وأجلس كما يجلس العبد!).
تذكرت هذه المعاني ، وسرني أن الأنصار يأخذون أنفسهم بها ، في مجتمعهم الخاص.
وبعد أن انتهت المقابلة سلمت مودعًا فطلب مني الأستاذ الشافعي أن أتردد على الجماعة من حين لآخر، لتوطيد المودة . كان في وسعه أن يسترسل في بيان مبادئ الجماعة وأهدافها .. ولكنه لم يفعل! وكان في وسعه أن يقدم إلى عددا من مطبوعات الجماعة ومجلاتها … ولكنه لم يفعل . كل ما فعله هو دعوتي للتردد على دار الجماعة من حين إلى آخر وترك لعامل الزمن أن يؤدي دوره ، حتى تنمو الأخوة بيننا نموًا طبيعيا ، ولا تتعجل الثمرة قبل أوانها ، لقد كانت خطة حكيمة استنتجت منها أن الأنصار يتبعون الاسلوب العلمي في دعوتهم ، وأن تحمسهم لفكرتهم لا ينسيهم الرفق والأناة والحكمة.
ثم انصرفت من الدار ، وجعلت أحدث نفسي:
لقد عاشرت كثيرا من الناس ، من مختلف الطبقات ، ووجدت أن الفساد قد دب إلى عقائد عدد كبير منهم . حتى من يسمون أنفسهم متدينين . وحتى من يسمون أنفسهم متعلمين ، وحتى من يتوهمون أنهم من الخاصة … لا تسلم معتقداتهم من زيغ وانحراف!
ولن أنسى ما حييت مشهدا صدمني في موسم الحج الأخير. كان بطله مصريا في نحو الخامسة والأربعين، يحمل مؤهلا جامعيا ، ويشغل وظيفة مدير عام في إحدى الوزارات ضمني به مجلس في المدينة المنورة فسمعته يزعم أن هناك محكمة عليا رئيستها السيدة نفيسة… وأعضاؤها أربعة ممن يسميهم بعض المضللين (أقطابا)، وأن هذه المحكمة المزعومة مختصة بالنظر في جميع الأحداث الكبرى التي يتعرض لها الناس.
صحت به قائلا: (رفقا بنا يا رجل! إن إيماننا بالله الواحد الصمد يرفض هذه الفكرة المؤسفة؛ لأنها شرك . كما أن التفكير المجرد السليم يرفضها أيضًا ؛ لأنها هراء وخرافة!
احترم يا رجل جلال المناسبة واحترم طهارة المكان الذي نجتمع فيه وقداسته ، واحترم إيماننا وعقولنا ، وكف عن هذا التضليل والتحريف).
ولكن الطامة الكبرى أن هذا الرجل وأمثاله في مجتمعنا كثيرون . وإذا كان هذا حال بعض المتعلمين ، فكيف بعامة الناس؟
يا أنصار السُّـنَّـة ! نحن في مجتمع لا تختلف جاهليته عن الجاهلية الأولى ، بل لعلها أشد وأنكى . إن جاهلية القرن العشرين قد سخرت لخدمتها مستحدثات العلم ، ونظريات الفلسفة ، وسلطان المال. هناك فريق يستفيد وينتفع ويستكثر من الأموال والعروض عن طريق الترويج للبدع والضلالات. ثم هناك القطيع المضلل الذي لا يميز بين الحق والباطل ، ولا بين السمين والغث.
فماذا أنتم صانعون لهؤلاء وأولئك؟
دارت بخلدي هذه الخواطر (فاستشعرت ضخامة المسئولية