باب السنة
حول الجن وتلبيسه
محمد صفوت نور الدين
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . وبعد :
فلقد كثر الجدل حول تلبس الجن بالإنس بين مثبت غالٍ ، واقع في البدعة والشرك ، وبين نافٍ مجحف ، خالف النص ، أو تأوله تأويلًا لا يتحمله ، فوافق المبتدعة ، وشابه المعتزلة ، حتى اختلط على الناس الحق بالباطل في هذا الأمر ، اشتبه عندهم الدجل بالسنة ، وعمل كثير من الناس أمور الشعوذة باسم السنة .
فالحق كثيرًا ما يضيع بين إفراط المُفْرطين ، وتفريط المفرِّطين ، ولقد كثرت الأسئلة حول ما يقوم به بعض الناس من علاج المصروع بالقرآن الكريم ، ويقع الجواب بين مُنْكِر ينكر الحق خوفًا من الوقوع في الباطل ، الذي يتعلق فيه كثير من الناس بغير الله ، ويخوفون من السحرة والمشعوذين . ويقع الأمر بين مفرطين يقولون : إن جيوشًا من كفار الجن يتسلطون على المسلمين ، ويعتبرون أنفسهم في جهاد شرعي مع الجن ، ويقولون : هذه الأعمال من القراءة ، والضرب والخنق ، وعمل الأشربة ، وغيرها عرفنا أثرها بالتجربة في صرفها للجن ، والتجربة خير دليل ، ويسندون أقوالهم بما ينسبونه إلى بعض الأئمة والعلماء ، بل بأحاديث بعضها مقبول ، وبعضها مردود . ولا يتسع المقام لتفصيل طويل ، ولكننا – مستعينين بالله – نذكر بعض الضوابط الهامة لهذا الموضوع الشائك والمتشعب ، والله الهادي إلى الصواب .
أولًا : الجن مخلوق مكلف مأمور بالعبادة لله رب العالمين لقوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات : 56] . خلقهم الله من نار قبل خلق الإنسان : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ(26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُوم ) [ الحجر : 26، 27] ، ويقول سبحانه : ( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ) [ الرحمن :15] .
ومن الجن مسلمون وكافرون : ( وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا(14)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ) [ الجن : 14، 15] . والجن يهتدون ويضلون ، ويلغب عليهم الضلال والإضلال . وهي توسوس للناس وتوحي إليهم : ( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ) [ الأنعام : 112] . وهي تُزين الباطل للناس : ( تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) [ النحل : 63] . وشياطين الجن ومردة الجن تطلق على الكافر العاتي من الجن .
والجن ينعم بالجنة إن كان مؤمنًا صالحًا ، ويُعذب بالنار إن كان كافرًا عاصيًا . ولا غرابة أن يُعذب الجني المخلوق من النار بالنار في جهنم ؛ لأن الله كما خلق الإنسان من طين ، فجعله خلقًا آخر يعذبه الطين إذا غمس فيه ، أو لطخ به ، أو ضرب به ، كذلك الله خلق الجان من النار ، فصار خلقًا آخر يعذب بالنار إذا دخلها ، والله على كل شيء قدير ، والجن يمكنهم أن يعملوا أعمالًا وصناعات : ( مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ) [سبأ :13] ، وغير ذلك ، ويمكنهم حمل أشياء ثقيلة مثل عرش بلقيس : ( أَنَا ءَاتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِك ) [ النمل : 39] .
والجن لا يعلمون الغيب ، إنما علم الغيب لله رب العالمين ، ومن ادعى علم الغيب من الجن فهو كاذب ، فلقد مات نبي الله سليمان ، والجن لا يعلمون ، مع أنهم في عذاب أليم ، يعملون خوفًا من سليمان ، وهو ميت أمامهم وهو لا يشعرون .
ومن الجن رجال ولهم قلوب وأعين وآذان وأسماع وأبصار : ( وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ) [الجن :6] ، والله يقول : ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ) [ الأعراف : 179] ، ويقول سبحانه : ( قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ) [ الجن : 1] ، وقال سبحانه : ( وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى ) [ الجن : 13] ، ويقول سبحانه : ( إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ) [ الأعراف : 27] .
ثانيًا : وسوسة الجن ومسه وتلبيسه واقترانه بالإنس ، كل ذلك ثابت بنصوص القرآن والسنة ، فهم يضلون الإنس كثيرًا : ( يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ) [ الأنعام :128] ، ويقول تعالى : ( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ) [طه :120] ، ويقول سبحانه : ( مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَن


