حوار حول التوسل والوسيلة
يجريه الدكتور محمد جميل غازي
* فإن قال قائل: أليست الشفاعة ثابتة للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فلماذا لا نتوجه إلى اللَّه تعالى بموجب هذه الشفاعة؟
* قلنا له: إنه عليه الصلاة والسلام- الآن- موعود بالشفاعة في اليوم الآخر، ووعد اللَّه حق، لكنها مشروطة بالإذن والرضا قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]، وقال تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلاَ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [النجم: 26].
فينبغي لمن أراد أن يدعو بطلب الشفاعة أن يقول: اللهم لا تحرمني شفاعته صلى الله عليه وسلم ، أو اللهم شفعه فيّ، وأمثال ذلك.
ولو كانت تطلب منه صلى الله عليه وسلم – الآن- لجاز لنا أن نطلبها ممن وردت الشفاعة لهم كالقرآن، والملائكة، وأطفال المؤمنين والصالحين…
ولجاز لنا أن ندعوهم، ونلتجئ إليهم، ونرجوهم بهذه الشفاعة، فنصير إذًا والمشركون الأولون في طريق واحد، لا نفترق عنهم إلا بالأعمال الظاهرة من صلاة وصيام ونطق بكلمة التوحيد من غير عمل بها، ومن غير اعتقاد لحقيقتها.
* ونقول أيضًا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لنا أن أسعد الناس بالشفاعة، من قال: لا إله إلا اللَّه خالصًا من قلبه، كما في حديث البخاري عن أبي هريرة، وشاهده في صحيح مسلم عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : ” لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة- إن شاء اللَّه- من مات لا يشرك باللَّه شيئا”.
* فحقيقة الشفاعة المأذون فيها، أن يتفضل اللَّه سبحانه وتعالى على أهل الإخلاص والتوحيد، فيغفر لهم بدعاء الشافعين الذين أذن لهم في المشفوع، فيكرمهم على حسب مراتبهم، وينال نبينا صلى الله عليه وسلم منه المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون.
* وقد نفى القرآن الكريم شفاعة الشرك في كثير من آياته كقوله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وكقوله: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ} [الشعراء: 100]، وكقوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} [الأعراف: 53]،، وكقوله: {وَلَمْ يَكُن لَّهُم مِّن شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاء} [الروم: 13]، وكقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء} [الأنعام: 94].
ومن تأمل هذه الآيات الكريمة وغيرها مما جاء في معناها، علم أن المقصود بنفي الشفاعة، نفي الشرك بها أو فيها، وهو أن لا يعبد إلا اللَّه.
* وقد أرسل اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم – بل وجميع الرسل عليهم السلام بكلمة التوحيد ليبعدوا الناس عن ضلالات الالتجاء والشفاعة والرجاء والدعاء لغير اللَّه سبحانه وتعالى وعز وجل.
* * *
* فإن قال القائل: إن المشركين كانوا يعبدون هذه الآلهة، ونحن لا نعبد الأنبياء والصالحين؟
* قلنا له: إن عبادتهم لها هو الالتجاء والدعاء والضراعة، لأنهم لم يكونوا يركعون لها ولا يسجدون، وهل كان ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر إلا أولياء وصالحين؟
يقول عبد اللَّه بن عباس وغيره: هؤلاء قوم صالحون كانوا في قوم نوح فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، فعبدوهم.
* فإن قال قائل: إن الداعي الذي يلجأ إلى قبور الأولياء والصالحين، لا يريد بعمله إلا التقرب إلى اللَّه، والزلفى إليه، والشفاعة عنده، والتوسط بهؤلاء الذين هم أقرب إلى اللَّه وأحب.
* قلنا له: إن هذا هو عين ما أراده المشركون الأولون، بدليل قوله تعالى حكاية عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، وقوله عز وجل: {هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} [يونس: 18]، وقد ختم اللَّه الآية الأولى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}، وختم الآية الثانية بقوله: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
* فإن قال قائل: إن هذه الآيات وغيرها- مما استشهدت به في باب الشرك- وردت في المشركين عباد الأصنام، ولا يصلح إطلاقها على غيرهم من مسلمة هذا الزمان.
* قلنا له: إن الشرك صفات من اتصف بها كان مشركًا، وكذلك سائر الصفات المذمومة كالزنا، والفسق، والنفاق، والظلم، إذ العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، كما يقول الأصوليون.
ثم…. إذا صح ما تقولون، كان معناه: أن كل حكم نزل على سبب مخصوص، في قصة مخصوصة، فهو لا يتعداها إلى غيرها، وهذا ظاهر البطلان، وفيه ما فيه من تعطيل لكثير من آيات القرآن المبين، وأحكام الدين، فإ