حكم الاحتفال بالموالد
بقلم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد:
فإنه قد طرأ على صفاء هذا الدين ووضوح أحكامه في عصور انحطاط المسلمين كثير من البدع والمحدثات التي زادت انحطاطهم انحطاطاً، وشغلتهم عن العودة إلى العقيدة الصافية والتمسك بها، والرجوع إلى الحق، بتتبع المظاهر الفارغة والتقاليد العمياء التي سنها من ضل وأضل، فحادت بهم عن طريق الحق وسلكت بهم مسالك الضلال، ولبست على المسلمين في عقيدتهم، وأخمدت فيهم جذوة الإيمان وجمال الاتباع، وامتصت طاقاتهم المتعددة المتقدة قوة وحماساً، بمظاهر فارغة وأعمال خاوية، فانتشرت بينهم أعمال الاحتفالات المبتدعة، واتجه رجاؤهم وتعلقهم بالله إلى التعلق بالقبور والأضرحة والتماس الشفاعة منها وطلب الحاجات إليها، فعاد أكثر المسلمين بهذه الضلالات إلى مظاهر الوثنية وتقديس الأشخاص، فاستخفهم أعداؤهم وازداد تدهورهم وتحولت قوتهم إلى ضعف. وبحلول التاريخ الذي يعتقد الناس أنه يوافق مولد رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم تحل مناسبة ابتدع كثير من الناس فيها إقامة الاحتفالات بالمولد، وزعموا أن ذلك مما يحقق المراد من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وموالاته، ويغفلون الواجب في أن محبة الرسول إنما تكون باتباعه وطاعته. أما هذه الاحتفالات الشائعة فهي غير جائزة، بل هي من البدع المحدثة في الدين، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا خلفاؤه الراشدون ولا غيرهم من الصحابة رضوان الله على الجميع، ولا التابعون لهم بإحسان في القرون المفضلة وهم أعلم الناس بالسنة وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعةً لشرعه ممن بعدهم.
وأول من ابتدعها فيما بلغنا هم الفاطميون في القرن الرابع الهجري، وهم معروفون بالعقيدة الفاسدة وإظهار التشيع لأهل البيت والغلو فيهم. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) أي مردود عليه. وقال في حديث آخر : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)). ففي هذين الحديثين تحذير شديد من إحداث البدع والعمل بها وقد قال الله سبحانه في كتابه: ((وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر: 7] وقال عز وجل: ((فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) [النور: 63].وقال سبحانه: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا..)) [الأحزاب: 21]. وقال تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))[التوبة: 100]. وقال تعالى: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..)) [المائدة: 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وإحداث مثل هذه الموالد يُفهم منه أن الله سبحانه لم يكمل الدين لهذه الأمة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يبلغ ما ينبغي للأمة أن تعمل به، حتى جاء هؤلاء المتأخرون فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به زاعمين أن ذلك مما يقرب إلى الله، وهذا بلا شك فيه خطر عظيم واعتراض على الله سبحانه، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. والله سبحانه قد أكمل لعباده الدين، وأتم عليهم النعمة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، ولم يترك طريقاً يوصل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه للأمة. كما ثبت في الحديث الصحيح عن عبد الله ابن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم)) رواه مسلم في صحيحه. ومعلوم أن نبينا صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء وخاتمهم وأكملهم بلاغاً ونصحاً، فلو كان الاحتفال بالموالد من الدين الذي يرضاه الله سبحانه لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أو فعله في حياته، أو فعله أصحابه ?. فلما لم يقع شيء من ذلك عُلم أنه ليس من الإسلام في شيء، بل هو من المحدثات في الدين التي حذر الرسول صلى الله عليه وسلم منها أمته – كما تقدم ذكر ذلك في الحديثين السابقين.
وقد جاء في معناهما أحاديث أخر مثل قوله ? في خطبة الجمعة: ((أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ض