تسيير أم تخيير
بقلم الأستاذ الدكتور أمين رضا
وكيل كلية طب الأسكندرية لشئون البحث العلمي والدراسات العليا
كثير من الناس يسألون: هل الإنسان مخير أم مسير؟ فإن قلت: مسير هو. قالوا لك ففيم إذاً الكتاب والحساب؟ وإن قلت هو مخير. قالوا: ولماذا إذاً تقولون إن شاء الله؟ ولماذا لا يختار بين الموت والحياة؟ ولماذا لا يختار بين السعادة والشقاء؟
هذه مسألة ألفها بعض الفلاسفة. وما يدرون أنهم إذ ألفوها أنهم وضعوا أحجية أو ((فزورة)) مضحكة سوف يظل الناس يتجادلون فيها إلى الأبد من غير أن يصلوا إلى نتيجة. وذلك لأنها مسألة لا أصل لها إلا في عقول من ابتدعوها. وهي فخ يقع فيه الذين افتتنوا بالفلسفة. فهي مسألة ذات وجوه كثيرة يفسرها كل على هواه، فمنهم من ينفي بها البعث والحساب، ومنهم من يكفر بالله بسببها، ومنهم من يتخاذل ويتوانى عن العمل استناداً على ما يستنبطه من معانيها.
يجب علينا أن ندرس الفطرة وندرس ديننا حتى نعرف موقفنا من هذه النظرية، وبذلك يهدينا الله إلى سواء السبيل، وينير لنا الطريق ويثبت أقدامنا.
يجب عدم التمويه بهذه النظرية، حتى لا تعمى بصائرنا فنرى جانباً واحداً من الفطرة ولا نرى الجانب الآخر. فهناك أشياء كثيرة لا يمكننا أن نختار فيها ألبتة، وتوجد أشياء أخرى كثيرة نعمل فيها حسب ما نختار لأنفسنا.
لم يخير أحد بين الأرض والكواكب الأخرى أيهما أفضل لحياته وسكنه. لم يخير أحدنا بين أن يكون إنساناً أو حيواناً أو جناً أو ملاكاً لم يخير أحدنا في مكان ولادته، أو في الزمان الذي يعيش فيه. ولن يخير في زمن قيام الساعة ولا في كيفيتها. لم يخير أحدنا في ولادته وحياته وعمره ومماته. لم يُسأل أحدنا أن يختار كيف تكون كل هذه ولا أين تكون ولا متى تكون. لم يخير أحدنا في شكل وجهه أو جسمه ولا طوله ولا عرضه. لم يخير في وضع عينيه في وجهه أو في مؤخرة رأسه، ولا في وضع الرجلين وحركتهما، ولا في تفاصيل اليدين ووظيفتهما. كل هذه وغيرها فطرة فطرنا الله علينا، ولا يمكننا تغييرها ولا معاكستها ولا تفاديها ولا الفرار منها.
وسنة الله في كونه شيء آخر يحد من اختيارنا، بل إننا يجب أن ندرس سنن الله حتى نكيف اختيارنا في حدودها. فإذا علمنا أننا باستمرار مجذوبون إلى الأرض فلا يمكن أن نختار لأنفسنا أن نمشي في الهواء لأن ذلك سيؤدي بنا حتماً إلى الهلاك بالوقوع على الأرض. يجب أن نكيف اختيارنا حسب ما يناسب الليل والنهار، والظل والشمس والشتاء والصيف، وخط الطول وخط العرض الذي نعيش عنده ومدى ارتفاعنا في الفضاء بعيدين عن الأرض ودرجة الحرارة أو البرودة.
والغيب يؤثر على اختيارنا أيما تأثير، فلا يمكننا أن نختار شيئاً لا نعرفه ولا نلمسه ولا ندركه. واين هي حدود الغيب؟ إن ما لا يمكننا أن ندركه بحواسنا الطبيعية أو بآلاتنا المخترعة التي تساعد هذه الحواس، كل ذلك غائب عنا. إنك إذا جلست في غرفة فلا يمكنك أن تعرف ما يجري في الغرفة المجاورة إلا إذا كنت متصلاً بها بمكبر للصوت أو بتليفزيون، ولا يمكنك أن تشهد ماذا حدث في الغرفة التي تجلس فيها قبل مجيئك، ولا ما سيحدث فيها بعد أن تتركها. إن حاسة النظر لها حدود، فمضمار النظر له حدود معلومة محدودة، والألوان التي يمكن للعين أن تدركها محدودة مؤكدة، وثبت أن العين يمكنها أن ترى ألواناً ذات موجة إشعاعية لها طول محدود، أما الألوان التي طول إشعاعها أقصر أو أطول من هذه الحدود فلا تدركها العين، وتوجد الآن آلات لتسجيلها، وقبل اختراع هذه الآلات كانت هذه الألوان الأخيرة في الغيب بالنسبة لنا ومن يدري ماذا يكون من ألوان أخرى ما تزال في الغيب بالنسبة لنا.
إن حاسة السمع كذلك لها حدود. فقد ثبت أن الأذن تدرك من الأصوات ما هي في حيز محدد من الذبذبات، وما زاد عن ذلك أو قل فلا تدركه الأذن ولو أنه يمكن تسجيله بآلات خاصة.
وما يقال في حاستي النظر والسمع يُقال في حواس الذوق واللمس والشم. وكل واحدة لها حدود في إدراكها، وما زاد أو قل عن هذه الحدود داخل في نطاق الغيب بالنسبة لنا.
وما يُقال في جميع هذه الحواس يُقال عن عقل الإنسان، فهو المركز الذي يتلقى كل ما تلتقطه حواس الجسم وينظمها ويرتبها ويربط بين بعضها البعض ويستنبط منها معلوماته وخبراته، ويصدر الإشارات إلى أعضاء الجسم يحركها وينظمها بدقة متناهية. ولكن كل ذلك لا يكون إلا في حيز محدد يتوقف على خبراته وذاكرته ويكفي دليلاً على أن عقل الإنسان محدود تحديداً شديداً أنه من عدة قرون كان العالم الواحد يحيط بكل العلوم معاً كالطب والفلك والكيمياء والطبيعة والفلسفة والدين وغير ذلك من أوجه النشاط العلمي، وبعد تراكم المعلومات في كل علم من هذه العلوم فإننا لا نجد في عصرنا هذا من العلماء إلا من يتخصص في أحدها. بل إن كل علم أصبح مقسماً إلى عدة فروع لا يمكن أن يلم العالم الواحد إلا بأحدها. مثال ذلك تقسيم الطب إلى أكثر من أربعين فرعاً أصبح كل