تفتيت الحقيقة بداية التحول عنها
بقلم فضيلة الأستاذ الشيخ محمد الغزالي
الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز بجدة
أصاب جهاز ” التليفزيون ” عندي عطل مبهم فلم تظهر الصورة المرتقبة ونظرت إلى الجهاز الجاثم في مكانه لا يؤدي عمله نظرة استغراب !!
وتحسسته بيدي فخيل إليَّ أنه لا ينقص شيئًا من آلاته الجلية والخفية .
وأخيرًا جاء العامل المتخصص في إصلاحه واستبدل بجزء تالف منه جزءًا صالحًا ، واستأنف الجهاز عمله ، وشرع يحقق الفائدة المرجوة منه !
وقلت في نفسي : إن الجهاز كله توقف عن أداء رسالته حتى تعاونت أجزاؤه الصغار والكبار على تحقيق وظائفها المنوطة بها !! ولا عجب فقد تتوقف الدبابة عن السير والقتال لقطعة تنقصها في مقدمتها أو مؤخرتها .
وقد يتعطل مصنع عن الإنتاج تكلف أنشاؤه الألوف المؤلفة من الجنيهات لأنه يفتقر إلى تكملة لا تساوي مائة جنيه ! وهكذا شئون الحياة الأدبية والمادية قد يصيبها عطب فادح لأن شطرها وأغلبها موجود ، وبقيتها الأخرى مفقودة عن خطأ أو تعمد .
ومن ثم ترى أمامك أشياء صالحة ، ولكنها قليلة الجدوى لأنها مبتورة ، وما تتم قيمتها وتبرز ثمرتها إلا إذا زادت الحياة فيها وفيما يكملها ، وعندئذ ينطلق التيار في دائرته المغلقة فيسطع النور .
إن تعاليم الإسلام كذلك ، لا تصلح الحياة ونقيم المجتمعات إلا على النحو الذي شرحنا .. وعناصر الوحي التي تشبه عقاقير الأدوية لا يتم الشفاء بها إلا إذا أخذناها كما جاءت . أما إذا طرحنا عقارًا وتناولنا آخر فلن يذهب لنا سقام ، وقد وجدت أن كثيرًا من علل المسلمين الفكرية والنفسية ، بل عللهم الاقتصادية والسياسية ترجع إلى أنهم يجدون من بعض النصوص ويهزلون من بعضها الآخر ، فلا يحصدون من هذا التناقض إلا ضياع النصوص كلها ! ولا يقيدون من النصوص التي عملوا بها – فيما يزعمون – شيئًا طائلاً ! لأن وجودها المنقوص في المجتمع كوجود جهاز التليفزيون الذي سقت لك خبر عطله أول هذا المقال .
تأمل معي هذا الحكم الشرعي في فرع من فروع الفقه الإسلامي ، لقول الله تعالى : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ .. } .
إلى هنا يمكن تقدير الحكم العملي في شأن يتصل بكيان الأسرة ، وربما لا يشغل العلماء أنفسهم عند تقرير الحكم بأبعد من ذلك عند إيراد النص .
أفهذا ما فعل القرآن الكريم ؟ لا ، لقد أعقب ذلك بخمس جمل تتضمن فنونًا من النصح والتأديب والتربية يضيع المجتمع إن أضاعها .
فقال جل شأنه :
1- { ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه } .
2- { ولا تتخذوا آيات اللَّه هزوًا } .
3- { واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } .
4- { واتقوا الله } .
5- { واعلموا أن الله بكل شيء عليم } .
وعندما توجه في بلادنا أحكام الطلاق ولا توجد معها بقية المعاني التي صاحبتها في هذه الآية فسوف يلعب بكتاب الله ولن تزيد الأمة إلا خبالاً !!
خذ مثلاً آخر ، لقد نهى الإسلام عن السرقة ، وأمر بقطع يد السارق ، بيد أن هذا الحد من حدود الإسلام يكون خيرًا وبركة مع إحياء أوامر الله كلها وإقامة شعب الإيمان الكثيرة التي تسد يقينًا كل ثغرة ، وتمنع أي غبن ، وتطارد آفات البطالة والجوع عند البعض . وآفات الحيف والنهب والسرف عند البعض الآخر .
أما مع رفع كل رقابة عن طريق الاكتساب وإناحة الثراء من شتى الوجوه الحرام ، وإيقاع الضعاف في عقابيل البأساء والضراء ، فالأمر يحتاج إلى تبصر في التطبيق .
ومعاذ الله أن نتريث في إقامة حد من حدود الله ، ولكنا نقول مقالة الحسن ، وقد رأى الشرطة تقبض على لص فقال : سارق السر يسعى به إلى سارق العلانية !!
وما كذلك دين الله .
وسمعت متحدثًا في الدين يذكر أنه لا حدود للمهر ، ويستشهد بقصة المرأة التي اعترضت عمر بن الخطاب لما أراد تقييد المهور .
والقصة صحيحة ، ضعيف الشعور بمآسي المسلمين !! إن جمهرة الشباب ألفت أن تقضي صدر عمرها ولا أقول شطره في التسول الجنسي والانحراف الشائق وكل تعسير لحلال سيتبعه ضمنًا تيسير للحرام .
فكيف يلقي فقيه ربه بإقرار هذه الحال أو إقرار ما يؤدى إليها يقينًا ؟؟
إن قصة عمر مع المرأة المعترضة تفهم في جو كان الرجل يستطيع الزواج فيه مثنى وثلاث ورباع . وكان الحرام يقع فلتات نادرة أو استثناء من قاعدة عامة .
أما اليوم فإن العرف السائد بين جماهير المسلمين من الزواج والمهور والهدايا لا صلة له بتقوى الله ، ولا إشاعة الاستعفاف ، ولا إقرار الطهر النفسي والاجتماعي .
إنه عرف يقوم في جملته على رذائل الرياء ، والكبرياء ، ورغبة أسر كثيرة في الانتفاخ والتعاظم . إن الإسلام كل لا يتجزأ والشبكة التي تنسخ تعاليمه الدقيقة تفقد جدواها عندما تخرق من جانب واحد ، فكيف إذا تعددت فيها الخروق وتفاحش الإهمال والتلف ؟