تراثنا الإسلامي والعربي
بين البعث والضياع
للأستاذ محمد السيد الجليند
مدرس الفلسفة الإسلامية المساعد بكلية دار العلوم
( 1 )
لقد أثير حول قضية التراث كثير من الآراء وكتب عنه كثير من المقالات سواء داخل جمهورية مصر العربية أم في خارجها من أنحاء الوطن العربي كما فضل بعض الدارسين أن يفتتح بعض مؤلفاته بمقدمة عن التراث وقضاياه ومحاولاً بذلك أن يبرز رأيه في المشكلة ويحدد اتجاهه إزاءها .
وكل هذا ولا شك يعطينا دليلاً قويًا على أهمية هذه القضية وخطورة الحديث عنها ، خاصة إذا علمنا أن تشكيل الثقافة العربية المعاصرة بالشكل الإسلامي الجاد ، والعربي الأصيل يتوقف إلى حد كبير على إحياء التراث والحفاظ عليه .
وانطلاقًا من هذا الإحساس وجدنا أصحاب الاتجاهات المختلفة والانتماءات السياسية الملوثة يحاولون إبعاد هذه القضية تمامًا عن حاضرنا لما في إحيائها من خطورة عليهم في ضياع وجاهتهم أو مركزهم الاجتماعي ، واستطاعوا – بما لهم من “دبلوماسية” في ترصيع الألفاظ وانتقاء الكلمات التي تمتاز بوقعها وجرسها في أذن الشباب – أن يتسلقوا إلى بعض أجهزة الإعلام سواء منها المقروء أو المسموع ويوهموا الشباب أن حاضرنا المنتكس لا سبيل لنا إلى إصلاحه والنهوض به إلا إذا نفضنا أيدينا من الماضي المتهم وأغمضنا أعيننا عن قيود ومفاهيم التراث الذي كبل الأجيال بسلاسل حديدية أعجزتهم عن التقدم .
وهذه النغمة ليست جديدة على آذاننا ولكن الخطر الجديد الكامن وراءها أن أصحاب هذه الدعوى قد خلا لهم المسرح الإعلامي في فترة من تاريخ هذه الأمة حاولوا خلالها أن يغروا شباب هذا الجيل بما في الحضارة الأوربية من مظاهر التقدم وما واكب ذلك من وسائل الرفاهية وسيادة العالم الثالث ماديًا وعلميًا وأوهموا الشباب أن هذه الحضارة الأوربية لم تقم إلا بعد الانسلاخ من الماضي تمامًا وأن سبب تأخرنا يرجع أساسًا إلى تمسكنا بذلك الماضي وتقاليده .
وهذا تضليل للشباب ومغالطة لمفهوم الحضارة وزيف على ماضينا فإن أي حضارة إنسانية لم تنشأ من فراغ .
كما أن أوربا حين نهضت لم تنس ماضيها ولم تقطع صلتها به .
وليس في ماضينا ولا في تراثنا ما يعيب حاضرنا حتى نتناساه أو نغض نظرنا عنه وليس فيه ما يعوق التقدم الحضاري بل يحمل هذا التراث في طياته القوة الحقيقية الدافعة لنا نحو التقدم لو نحن فهمناه حق فهمه وتمثلناه في سلوكنا الفردي والاجتماعي .
ولا شك أن شبابنا قد عاش فترة طويلة من الزمن فيما يشبه الفراغ الثقافي والديني استطاع أصحاب الانتماءات المذهبية والفكرية خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ أمتنا أن يوسعوا الهوة بين شبابنا وبين ماضيه وأن يقطعوا الصلة بينه وبين تراثه ، وصوروا التراث الإسلامي على أنه مجموعة من القيود التي كبلت ماضينا وعاقته عن التقدم ، وأصبحت أي دعوة لإحياء هذا التراث تعتبر ردة فكرية أو هي دعوة إلى التحجر والجمود ، ولم يكن هناك من يحاول أن يأخذ بيد الشباب ليفتح عقله وفكره على الحقائق عارية من لون المناسبة أو الزمان والمكان ، وإذا كان هناك من يحاول ذلك فإن محاولته كان لا بد أن تجهض قبل تنفيذها بأي وسيلة سواء كانت وسيلة مشروعة أو غير مشروعة إنسانية أم تتنافى مع أبسط قواعد الإنسانية ، وكانت نتيجة طبيعية لكل ذلك أن يشغل الشباب نفسه بما يملى عليه من ثقافات وآراء ، ويعتنق ما يطرح عليه من مذاهب وأفكار ظاهرها الرحمة وباطنها الفساد والتحلل من كل قيمة اجتماعية أو خلقية أو دينية ، ولقد ساعد المناخ السياسي والاجتماعي والاقتصادي لدى الذي عاشه شبابنا على الرواج لهذه البضاعة الغثة ، حتى استطاع تجارها أن يملوا على الشباب ما شاءوا من آراء في الوقت الذي سكت أو أسكت فيه غيرهم ، وينشرون صحائفهم على المجتمع حيث طويت صحائف غيرهم ، وصار الأمر كما يقول الشاعر :
خلا لك الجو فبيضى واصفرى
ونقرى ما شئت أن تنقرى
وهذا شأن البضاعة الغثة دائمًا ، لا تجد رواجها إلا في فترات التحول الاجتماعي أو التغيير الأيدولوجي للشعوب حيث تهتز القيم في نظر المجتمع وتتهاوى المبادئ السائدة فيحتل غيرها مكانها وتتحول أنظار الشباب واتجاهاتهم عن بعض الآراء والأفكار لتعتنق غيرها أو تدين به .
ولقد مضى ربع قرن من الزمان على هذه التجربة الثقافية التي حاول البعض أن يطرحها – قسرًا – على شباب الجيل كبديل للقيم الثابتة والمبادئ الراسخة في وجدانه والتي ورثها عن دينه وتراثه ، وخلا المسرح الثقافي والإعلام طوال هذه الحقبة لأصحاب هذه التجربة فلم يكن هناك صوت يسمع غير صوتهم ولا ما يكتب إلا قولهم .
وبعد مضي هذه الفترة من التاريخ يكون من حق شبابنا أن يسأل ويتساءل عن القيمة الخلقية التي قدمها أصحاب هذه التجربة للشباب ليعمل بها ويؤمن بصدقها وما هي القدرة السلوكية التي غرسها هؤلاء في قلوب الشباب لتكون له هاديًا وسط رياح هذا العصر العاتية .
لقد فتح الشباب عينه على ا