تحكيم العقل .. أي عقل هذا .. ؟
القسم الثاني : استعمال العقل وحدوده
للأستاذ الدكتور
أمين رضا
أستاذ جراحة العظام والتقويم بكلية طب جامعة الإسكندرية
درسنا في القسم الأول من هذا البحث المنشور في الأعداد السابقة العقل الإنساني وخواصه وحدوده ، واتصاله بالعالم الخارجي عن طريق الحواس لجمع المعلومات وتخزين الخبرة .
وندرس في القسم الثاني استعمال هذا العقل . وحدوده .
استعمال العقل وحدوده :
قد يخطئ علماء الأمس واليوم عند استعمالهم لعقولهم بإحدى طريقتين ، فقد ينبع خطؤهم من اقتناعهم بأن العلم الذي لديهم ليس بعده ولا وراءه ولا أمامه أي علم آخر . وهذا هو الغرور المتغطرس نفسه . وقد يكون الخطأ لأنهم استعملوا ما لديهم من علم واجتهدوا فيه وأسسوا نظرياتهم ، لا على أنها هي الكلمة الأخيرة ، بل على أنها النظريات التي يرتضيها عقلهم حسب علوم زمانهم .
وعلماء اليوم الذين يدرسون النظريات القديمة ويكشفون عن خطئها يحترمون علماء العصور الأولى . ويقولون عنهم إنهم كانوا ضالعين في العلوم مؤسسين لها . فمع خطئهم فقد اجتهدوا . وسار على نهجهم العلماء الذين جاءوا بعدهم . قلدوهم في الاجتهاد ولم يقلدوهم في الخطأ . فصححوا ما قاله الأولون . ولم يكذبوهم . بل احترموهم . لأن علماء اليوم يرون أنهم لو عاشوا في تلك القرون الأولى لما وصلوا بتفكيرهم إلا إلى نفس النتائج التي وصل إليها العلماء الأوائل .
والمسلمون علماء في اختيارهم لتصرفاتهم مثل علماء السنن الكونية . فهم يزنون الأمور التي تكون في نطاق إدراك حواسهم وفي محيط فهم عقولهم ، ويبنون قرارهم على ذلك ، مع إحساسهم العميق بأنه توجد أشياء كثيرة غائبة عن إدراكهم الحسي ، وتفكير عقلهم . هذه الأشياء في علم علام الغيوب فقط ، وقد تؤثر على قراراتهم في أي اتجاه ، وقد يظهر لهم مستقبلاً خطؤهم في التقدير ، وقد ينتهي قرارهم إلى عكس ما كانوا يهدفون ، وقد ينتهي إلى نتائج تتفاوت في مقدار نجاحها وإخفاقها ، ولذلك فإنهم إذا ما فكروا ودبروا ، فهم يتوكلون على اللَّه علام الغيوب ، ويقولون بإيمان راسخ : ” إن شاء اللَّه ” ، وهذا هو العلم الحقيقي ؛ لأن من يقولها يعلم أن جهله أكثر من علمه ، وأن الغيب أوسع من الواقع الملموس . أما من لم يقلها فهو مغتر بنفسه وبعلمه ، وهو أجهل من أن يدرك أن ما غاب عنه لا نهاية له ، وهو يخيل إليه أن علمه ليس بعده ولا قبله ولا أمامه ولا وراءه ولا فوقه ولا تحته علم ، في حين أنه في الحقيقة ما أوتي من العلم إلا قليلاً .
وبما أن هناك حدودًا للعقل والحواس المؤثرة فيه ، فإن الإنسان يجتهد في فهمه للأشياء ، ويصل إلى قرار بالنسبة لها ، ولا يمانع أبدًا مستقبلاً في أن يغير قراره هذا بعد أن تتضح له أمور لم تكن في علمه من قبل .
وأخشى ما يخشاه المسلم في دينه هو أن يفسر بعلمه الحاضر آية قرآنية ثم يتضح له بعد ذلك أن تفسيره كان مخطئًا لأن علمه يتغير ولكن علم الله لا يتغير ، أو أنه قال عن حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم” غير معقول ” ثم يتضح له مستقبلاً أنه معقول . فعلم الإنسان يتغير كلما تقدم الزمن بسبب تكشف الجهل شيئًا فشيئًا ، أما علم الرسول الذي ينزل عليه الوحي فإنما هو علم من عند اللَّه ، لا علم من عند الرسول البشر ، وعلم الله لا يتغير لأنه صحيح دائمًا .
علم الله سبحانه وتعالى :
خلق الله سبحانه وتعالى كل ما هو موجود في عالمنا هذا ، كل ما نراه ونسمعه ونشاهده ونحس به ونتذوقه ، كل ما ندركه وما لا ندركه .
وخلق الإنسان لا يعلم شيئًا ، وكل واحد منا يولد طفلاً ، ويبدأ يتعلم من أول لحظة يتعلم كيف يرضع وكيف يبكي ، ثم كيف يرى ، وكيف يميز ما يراه ، ثم كيف يضحك ، وهكذا حتى يكبر ، ويكبر معه عقله ، ويبدأ يدير حواسه في أرجاء هذا الوجود ، يحاول أن يفهم شيئًا جديدًا كل يوم ، ويستمر يدرس ويتعلم حتى تنتهي حياته ، وينتهي بذلك علمه ، إلا ما يكون قد سجله ، فيسبح المسجل علمًا وخبرة يتلقاها عنه الأبناء والأحفاد ، ويضيفون إليها ، وهكذا تبنى الإنسانية ثروتها العملية ، وتؤسس ثقافتها التي هي منبع حضارتها وتقدمها المستمر في مختلف ميادين الصناعة والتجارة والفلاحة والهندسة والطب والآداب وغير ذلك .
وخالق هذا الوجود يعلم ما خلق بكل تفصيل ودقة : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [ 67: 14 ] .
وكل ما تراكم عند الإنسانية كلها من علم من يوم خلقها الله ، إن هو إلا قبس من علم الله ، وهو كثير لا يمكن أن يستوعبه أحد ، بل ولا يمكن أن يحصيه فرد أو مجموعة مهما أوتوا من آلات حديثة ، ومهما أوتوا من آلات تسجيل وحساب وتحليل إلكترونية وما ستتعلمه الإنسانية مستقبلاً أكثر وأكثر وأكثر ، ولا يمكن أن يعرفه ولا أن يحصيه إنسان أو مجموعة من الناس ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا .
هذا كله كان في علم الله عندما خلق اللَّه الوجود كله ، وكل ما تبقى من علم يغي