تحت رواية التوحيد
لفضيلة الشيخ عبد اللطيف محمد بدر
المقال السابع:
تحدثت في مقالين سابقين عن توحيد الربوبية الذي كان يعتقده المشركون وعن توحيد الربوبية الذي كانوا ينازعون فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانطَلَقَ الْمَلأََ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ص: 5-7].
فلم يغنهم ما اعتقدوه من توحيد الربوبية عما أنكروه من توحيد الألوهية شيئا فلا إيمان لمن لم يستكمل توحيد الألوهية ويخص اللَّه وحده بالعبادة، ويظهر أثر هذا التوحيد الخالص في قلبه فلا يرجو إلا اللَّه، وعلى لسانه فلا يدعو أحدا سواه، وفي كل أعماله فلا يبتغى بها إلا وجه اللَّه {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162،163]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110].
فأين من هذا التوحيد الذين يدعون غير اللَّه ويقصدونه لتفريج الكروب وقضاء الحاجات من الأحياء أو الأموات ويقدمون لهم النذور ويحلفون بهم ويعظمونهم من دون اللَّه أو مع اللَّه وإذا قيل لهم لا تفعلوا ذلك إلا لله وحده غضبوا وقالوا: إنهم أقرب إلى اللَّه منا، فهم وسيلتنا إليه، مثل ما قال الذين أشركوا من قبل: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفي} [الزمر: 3]، {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45].
لقد ابتلي المسلمون في كثير من البلاد الإسلامية بهذه القبور التي يقدسون من فيها، ويقدمون لها القرابين في صور شتى، ما بين طائف بها ومقبل لها ومتضرع إليها وحالف بها وموقد فيها السرج وكاسٍ لها من ديباج الحرير وناذر لها الأنعام والأموال والطعام التي تشح بها نفسه على الأحياء من مساكين جيرانه وفقراء أهله وصدق من قال:
أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف ترزق الأموات
ولقد علمنا الإسلام أنه لا طواف إلا بالكعبة، ولا تقبيل إلا للحجر الأسود، ولا تضرع ولا حلف ولا نذر إلا لله وحده، وأن مسرج القبور ملعون وأن كاسيها مبذر من إخوان الشياطين لأنه منفق للمال في غير وجهه الصحيح.
يقول اللَّه تعالى عن حجاج بيته: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
ويقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه مبينا للناس سنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في تقبيل الحجر الأسود فيما يرويه عنه البخاري ومسلم: (أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ولولا أني رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك).
ويقول اللَّه تعالى عن التضرع: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]. ومن الاعتداء على حق اللَّه التضرع لغيره.
وعن الحلف يروي البخاري عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: ((ألا إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفا فليحلف باللَّه أو ليصمت)).
ويثني اللَّه تعالى على الذين يوفون بنذورهم له سبحانه فيقول: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7]، ويذكر جل شأنه أنه يعلم ما ينفق عباده وما ينذرون: {وَمَا أَنفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270]، ولا شك أن من صرف شيئا من العبادة لغير اللَّه فهو من الظالمين الذين لا ينصرون.
وقد نهى اللَّه سبحانه وتعالى عن التبذير في الأموال بإنفاقها فيما لا يعود بالنفع على أحد قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء 26،27].
وأي نفع للميت من هذا الكساء فضلا عن الأحياء، وقد رأى سيدنا عمر رضي اللَّه عنه خيمة على قبر فأمر بإزالتها وقال: دعوه يظلله عمله، واللَّه تعالى يقول: {وَأَن لَّيْسَ للإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39].
وقد بين رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن النذر الذي يكون لله