تحت راية التوحيد
بقلم فضيلة الشيخ: عبد اللطيف محمد بدر
– 20-
قلت في المقال السابق أن الدعوة الإسلامية بدأت بداية صعبة ولكنها ضرورية، ولا بد منها، لأنها كغيرها من الدعوات السماوية السابقة، تريد أن تحرر العباد، عبادة العباد إلى عبادة ربهم الذي خلقهم ورزقهم ويدبر شئونهم، فكانت دعوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس أن يقولوا لا إله إلا اللَّه هي البداية الصعبة التي لا بد منها.
وصعوبتها تأتي من أنهم فهموا منها أنها منهاج جديد وضع للناس، يغاير كل المغايرة ما كانوا عليه وألفوه في العقيدة وفي العبادة وفي السلوك، فيصحح ما فسد من عقائدهم، وما ساء من عبادتهم، وما اعوج من سلوكهم، وبغير ما بهم من ضلال، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم بإذن ربهم إلى صراط مستقيم. كما قال اللَّه تعالى: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ 15 يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} 15- 16: المائدة.
لقد كان الإيمان باللَّه والرغبة في التقرب إليه- وما يزال- فطرة مركوزة في النفوس {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} 30- الروم.
إلا أن البيئة التي يعيش فيها الإنسان، إما أن تنمي هذه الفطرة، وتجعلها متعلقة باللَّه، إن كان يسودها منهج اللَّه وتخضع لحكم اللَّه وتتحقق بمعنى لا إله إلا اللَّه، وإما أن تطمس هذه الفطرة إن كان يسودها منهج البشر وتخضع لحكم القانون ولا تتحقق بلا إله إلا اللَّه.
وهذا ما كان عليه أهل الجاهلية حين بعث فيهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فهم يؤمنون باللَّه ولكن لم يقدروه قدره وجعلوا له الشركاء واتخذوا من دونه الوسطاء والشفعاء وظنوا أنها تقربهم من اللَّه، وتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به، وأضلهم الشيطان ضلالاً بعيدا. ويشاء اللَّه سبحانه وتعالى أن يبصرهم بفساد ما يعتقدون وسوء ما يعملون وخطأ ما إليه يحتكمون: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} 42: الأنفال.
فأرسل إليهم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ونادى فيهم بأنه لا إله إلا اللَّه حتى يعودوا إلى فطرتهم، ويثوبوا إلى رشدهم، ويرجعوا إلى ربهم، ويكفروا بطواغيتهم، ويذعنوا إلى خالقهم، ويسلموا له ويسيروا على منهاجه، ويحتكموا إلى كتابه، ويغيروا ما بأنفسهم فيغير اللَّه ما بهم، ويمنحهم الأمن والطمأنينة، ويسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، ويمدهم بالقوة ويمنحهم العزة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} 8: المنافقون، {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} 10: فاطر.
واللَّه تعالى يقول لأهل الكتاب ولكل من أنزل إليهم كتاب: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُم ْسَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ 65 وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ} 65- 66: المائدة.
ويجعلها اللَّه سبحانه وتعالى مطردة لكل قبيل من الناس وفي كل زمان ومكان فيقول جل شأنه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} 96: الأعراف.
فاستجاب لكلمة التوحيد التي نادى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فريق ممن هدى اللَّه، فجعلوها شعارهم وفي شعورهم، ونطقت بها ألسنتهم واستيقنتها قلوبهم وحققوها في أنفسهم وفي مجتمعهم، وانضووا تحت لوائها، داعين إليها، ومجاهدين من أجلها، مشرقين ومغربين رجالاً وركبانا، ففتحوا بها البلاد، وهدوا إليها العباد، وأقاموا الحضارات، وأنشأوا المدنيات، وكانوا هم الأعلون، وكان اللَّه معهم، ولم يترهم أعمالهم، وقذف اللَّه في قلوب عدوهم المهابة منهم، ونصرهم بالرعب، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم الأئمة وجعلهم الوارثين.
فخلف من بعدهم خلف جعلوا كلمة التوحيد شعارًا لا مضمون له، تحركت به شفاههم ولم تعه قلوبهم، آمنوا بها قولا وخالفوها عملا، ولم تتغير بها نفوسهم، ول