تحت راية التوحيد
بقلم فضيلة الشيخ: عبد اللطيف محمد بدر
– 19-
انتهى بنا المقال السابق إلى أن منطق الإيمان الصادق باللَّه الواحد يقتضي أن لا يحكم بين العباد إلا من خلقهم ورزقهم ولا يشرع لهم إلا من أحياهم ويميتهم، الذي أحصاهم عددا ويعلم ما يصلحهم وهو العليم الخبير.
ولذلك شاءت حكمة اللَّه تعالى أن تكون القضية الأولى التي تصدى لها الإسلام، وتناولها القرآن بالتقرير والبيان، وبدأ بها الرسول صلى الله عليه وسلم هي دعوة الناس إلى الإيمان بأنه لا إله إلا اللَّه وهي الكلمة الأولى في رسالة كل رسول قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 25: الأنبياء. وقد قال اللَّه تعالى لموسى كليمه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى 13 إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَافَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي} 13- 14: طه، كما قال تعالى لخاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} 19: محمد.
ولم تكن هذه الكلمة التي تنطق بها أفواه الملايين من المسلمين الآن دون وعي سليم ولا إدراك صحيح لمعناها، لم تكن بالأمر الهين على نفوس العرب الأولين الذين كانوا أول من دعاهم إليها النبي الأمي محمد صلى الله عليه وسلم فقد كانوا يعرفون معناها الصحيح حق المعرفة، وهو يعني في لغتهم وفهمهم أن الحاكمية المطلقة يجب أن تكون لله وحده.
ومعنى ذلك هو سلب السلطان والحكم من أيدي الكهان والأمراء ورده إلى اللَّه وحده وجعل حق التشريع لله رب العالمين.
ومن أجل ذلك حارب الكهان والأمراء وشيوخ القبائل وأصحاب الجاه والسلطان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حربًا لا هوادة فيها ولا لين، ليصدوا الناس عن الإيمان بهذه الكلمة الطيبة كلمة التوحيد حتى يبقى لهم سلطانهم وتدوم لهم هيبتهم في النفوس وهيمنتهم على الناس.
لقد كانت هناك نواح كثيرة تحتاج إلى إصلاح غير ناحية العقيدة التي آمنوا ببعضها وكفروا بالبعض الآخر، حيث آمنوا بربوبية اللَّه وحده وأشركوا معه في الألوهية: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ} 18: يونس.
وهذه النواحي الأخرى الكثيرة ربما كان البدء بإصلاحها أسهل بكثير من إصلاح العقيدة، وكان يمكن أن يجمعهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على دعوات إصلاحية عديدة، فقد كانت جزيرة العرب محتلة من الفرس والروم في أطرافها الخصبة، وكانت توجد حفنة قليلة من الأغنياء يستأثرون بالمال ويستذلون الفقراء، وطائفة أخرى من الأقوياء بيدهم السلطان يستعبدون الضعفاء، وكانت هناك عادات سيئة منتشرة بينهم كشرب الخمر ولعب الميسر ووأد البنات، وكانت وحدتهم ممزقة بالحروب والعداوات التي تثيرها بينهم أتفه الأسباب.
ولكن منشأ هذه الانحرافات كلها هو الانحراف الأساس في العقيدة بالشرك باللَّه وعدم إسلام الوجه والقلب وإسلام الحكم والتشريع وإسلام النظام والحياة لله، فإذا زال هذا الانحراف الأساس زالت تبعًا له سائر الانحرافات.
فلا عجب أن تكون البداية في الدعوة بلا إله إلا اللَّه، وهي ولا شك بداية ضرورية وإن كانت صعبة لا تقبلها النفوس التي ضلت بسهولة ولا تسلم بها القلوب التي زلت بدون معاناة.
فهي بداية لا بد منها لأن اللَّه سبحانه وتعالى أراد بالإسلام أن يخلص الأرض من حكم الطواغيت لحكم اللَّه، وأن تتحرر النفوس من الأهواء والعبودية لغير اللَّه بالعبودية لله وحده، وأن تنتشر العدالة بين الناس بتحقيق منهج اللَّه، ويتمثل ذلك كله في: ” لا إله إلا اللَّه” التي تعني بحق أنه لا حكم إلا لله ولا شريعة إلا من اللَّه ولا سلطان لأحد على أحد إلا سلطان اللَّه.
كما أن النفوس لا تتحرر من الأهواء والعبودية لغير اللَّه إلا إذا أيقنت بأن اللَّه رقيب عليها وأنه سائلها عما كسبت {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 6: المجادلة.
والعدالة الاجتماعية الصحيحة لا تقوم إلا في مجتمع رباني يقوم على الإيمان باللَّه، ويرتبط أفراده برباط وثيق هو رباط الحب في اللَّه، ويعتقد أنه يعطي- حين يعطي- طاعة لله، وأنه يأخذ- حين يأخذ- بإذن اللَّه، فلا أثرة فيه ولا أنانية، ولا طمع عنده ولا جشع، فالفقراء متعففون {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} 273: البقرة. والأغنياء مؤثرون: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُ