بر الوالدين بعد موتهما
بقلم مدير التحرير / محمود غريب الشربيني
الحمد للَّه ، والصلاة والسلام على رسول اللَّه ، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .. وبعد :
فلقد جَسَّم لنا الشرع الحنيف ، كيف يكون بر الوالدين في حياتهما ، وبعد مماتهما ، ليكون كل منا بارًّا بوالديه طول عمره .
وفي هذا العصر ، وربما تعطش كثير من الآباء لبر أبنائه له في حياته ، فهو عملة نادرة وغير متداولة في أيامنا تلك ، لا يكاد يعرفها إلاَّ من رحم ربي .
فما بالكم ببر الوالدين بعد موتهما ، فهو بلا شك أندر وأندر ، بالرغم من شدة حاجة الآباء إليه في قبورهم .
فكيف يكون بر الآباء بعد مماتهم ؟
صلة الرجل أهل ودِّ أبيه بعد أن يولى :
روى مسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في (( الأدب المفرد )) ، وأحمد عن ابن عمر ، رضي اللَّه عنهما ، أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا ملَّ ركوب الراحلة وعمامة يشدُّ بها رأسه ، فبينما هو يومـًا على ذلك الحمار إذ مر به أعرابيّ ، فقال : ألست ابن فلان ؟ قال : بلى ، فأعطاه الحمار
فقال : اركب هذا ، والعمامة ، وقال : اشدد بها رأسك ، فقال له بعض أصحابه : غفر اللَّه لك ، أعطيت هذا الأعرابي حمارًا كنت تروّح عليه ، وعمامة كنت تشدُّ بها رأسك ، فقال : إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن من أبر البر ؛ صلة الرجل أهل ودِّ أبيه أن يولّى )) . وإن أباه كان ودًّا لعمر .
وروى ابن حبان وأبو يعلى عن أبي بردة قال : قدمت المدينة ، فأتاني عبد اللَّه بن عمر ، فقال : أتدري لِمَ أتيتك ؟ قال : قلت : لا . قال : سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول : (( من أحبَّ أن يصل أباه في قبره ، فليصل إخوان أبيه بعدهُ )) . وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك . صححه الشيخ الألباني .
وروى أبو داود وابن ماجه والحاكم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . وقال الذهبي : صحيح عن مالك بن ربيعة الساعدي ، رضي اللَّه عنه ، قال : بينما نحن جلوس عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه رجل من بني سلمة ، فقال : يا رسول اللَّه ، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما بعد موتهما ؟ فقال : (( نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وانفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما )) . ضعفه الشيخ الألباني .
وكل فقرة من هذا الحديث نجد ما يدل عليها في الأحاديث الأخرى الصحيحة .
تنفيذ وصيتهما :
روى النسائي عن الشريد بن سويد الثقفي قال : أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقلت : إن أمي أوصت أن تُعتَق عنها رقبة ، وإن عندي جارية نوبية ، أفيجزئ عني أن أعتقها عنها ؟ قال : (( ائتني بها )) . فأتيته بها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : (( من ربُّك ؟ )) قالت : اللَّه . قال : (( من أنا ؟ )) قالت : أنت رسول اللَّه . قال : (( فأعتقها فإنها مؤمنة )) .
وروى البخاري برقم ( 3129 ) عن عبد اللَّه بن الزبير ، رضي اللَّه عنهما ، قال : لما وقف الزبير يوم الجمل دعاني ، فقمت إلى جنبه ، فقال : يا بني ، إنه لا يقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم ، وإني لا أراني إلاَّ سأقتل مظلومـًا ، وإن من كبير همي لَدَيني ، أفترى ديننا يُبقي عن مالنا شيئـًا ؟ ثم قال : يا بني ، بعْ مالنا واقض ديني ، وأوصى بالثلث ، وثلثه لبنيه – يعني عبد اللَّه بن الزبير – يقول : ثلث الثلث ، فإن فضل شيء من مالنا بعد قضاء الدين فثلثه لولديك ، قال عبد اللَّه بن الزبير : فجعل يوصيني بدينه ، ويقول : يا بني ، إن عجزت عن شيء منه فاستعن بمولاي ، قال : فواللَّه ما دريت ما أراد ، حتى قلت : يا أبت ، من مولاك ؟ قال : اللَّه ، قال : فواللَّه ما وقعت في كربة من دينه إلا قلت : يا مولى الزبير ، اقض عنه دينه ، قال : فقتل الزبير ولم يدع دينارًا أو درهمـًا إلا أرضين منها الغابة ، وإحدى عشرة دارًا بالمدينة ، ودارين بالبصرة ، ودارًا بالكوفة ، ودارًا بمصر ، قال : وإنما كان دينه الذي كان عليه أن الرجل كان يأتيه بالمال فيستودعه إياه ، فيقول الزبير : لا ، ولكن هو سلف ، فإني أخشى عليه الضيعة ، وما ولي إمارة قط ولا جباية ولا خراجـًا ولا شيئـًا إلا أن يكون في غزوة مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، أو مع أبي بكر وعمر وعثمان ، قال عبد اللَّه بن الزبير : فحسبت ما كان من الدين فوجدته ألفي ألفٍ ومائتي ألف ، قال : فلقي حكيم بن حزام عبد اللَّه بن الزبير ، فقال : يا ابن أخي ، كم على أخي من الدين ؟ قال : فكتمته ، وقلت : مائة ألف ، فقال حكيـم : واللَّه ما أرى أموالكـم تســـع هذه ، قال : فقال عبد اللَّه : أرأيتك إن كانت ألفي ألفٍ ؟ قال : ما أراكم تطيقون هذا ، فإن عجزتم عن شيء عنه فاستعينوا بي ، وكان الزبير قد اشترى الغابة بسبعين ومائة ألف ،