صفحات وضيئة من تراث علمائنا الراحلين :
بدعة الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم
للإمام الراحل : الأستاذ الجليل الشيخ محمد حامد الفقي
تغمده الله برضوانه ورحمته
[ كتب إمامنا الراحل الأستاذ الجليل الشيخ محمد حامد الفقي – رحمه اللَّه – مجموعة من المقالات الإسلامية التي نعتز بها ، سجل فيها خواطره الدينية ورؤياه الثاقبة . من هذه المقالات مقالته البليغة حول بدعة الاحتفال بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم . وقد رأينا إعادة نشرها لما فيها من المعاني الدينية القيمة والمثل الإسلامية العظيمة – عملاً على حفظ التراث الديني واعتباره نبراسًا يضيء لنا الطريق في هذا الزمن الذي كثرت فيه البدع والانحرافات والشعوذات من المضللين والمتقولين ] :
مهد الله تعالى لانبثاق فجر النور المحمدي بمقدمات نبهت العقول إلى قرب مجيئه وأعدت النفوس وهيأتها لتلقيه بما هو أهل له من التصديق ، والإذعان ، والإجلال ، والإعظام ، والإكبار .
فكان حادث أبرهة مع جيشه الكثيف وفيلته العظيمة ، وإجرامه الفظيع في محاولة هدم بيت الله العتيق وعجز قريش وأحلافهم عن صده ورده ولجوئهم وفزعهم إلى الله على لسان شيخ قريش يومئذ عبد المطلب ، إذ تعلق بأستار الكعبة ، ونادى ربه :
لا هم إن المرء يمنع رحله فامنع رحالك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك
لاهم : أي اللهم .
فمنع الله بيته ورد كيد عدوه في نحره : { فأرسل عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول } لا كرامة لقريش ولا نصرة لهم ولشيخهم ، فلم يكونوا بشركهم ووثنيتهم الفاجرة ، وتلويثهم البيت الذي طهره إبراهيم للطائفين والعاكفين والركع السجود – بما نصبوا عليه وحوله وبداخله من صور وتماثيل آلهتهم التي اتخذوها من دون الله ، وإنما كان ذلك إكرامًا وتمهيدًا لذلك المولود الكريم الذي سيولد في هذا العام الولادة الأولى البشرية فيكون المثل الأعلى في طفولته لتربية النشء على الطهر والعفاف وعزة النفس وصيانتها عن كل ما يتسفل بها إلى درك الصغار والفساد ، والذي سيولد الولادة الثانية الروحية العلمية الرسالية حين يبعثه فيحمي به هذا البيت العتيق ويطهره من تلك الأرجاس الشركية ، ويدفع عنه الهدم المعنوي الذي هد وقوض أركانه الدينية ، بما ألصقت به قريش من صور وثماثيل أوليائهم الذين { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ . أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } .
وقد قرن الله تعالى بميلاد ذلك المولود العظيم آيات بهرت العقول ، إرهاصًا بنبوته ، وإعلامًا بجلالته ، وإيذانًا بفضيلته ، وجعله يتيمًا لم ير أباه حتى يكون الفضل في كفالته وتربيته وإيوائه لله وحده ، ليصنع على عين الله ، ويصاغ في القالب العقلي والفكري الذي يؤهله لوظيفة خاتم المرسلين ، وأتقى المتقين وأعلم العالمين بالله رب العالمين ، وسيد الداعين ، وأصبر المجاهدين ، وخير أولي العزم من الأنبياء الصادقين ، وأفضل قدوة وأحسنها للمهتدين إلى صراط الله المستقيم .
فهو في ولادته الأولى : محمد بن عبد الله الهاشمي القرشي العربي : بشر ، ولد كما يولد البشر ، وطعامه وشرابه ومحياه ومماته ككل إنسان : { يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ } ، وقد قال الله الذي شهد خلق رسول الله وتكوينه ، وخلق السموات والأرض ، وخلق أنفس الناس وكل شيء : { قل إنما أنا بشر مثلكم } ، { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون } ، { قل ما كنت بدعًا من الرسل } ، { إنك ميت وإنهم ميتون } ، { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } .
لقد حدث النبي صلى الله عليه وسلم – وهو أعلم بنفسه من كل إنسان مهما أوتي من علم -: “إنما أنا بشر ، فلعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته فأقضي له ” ، ” إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد ” ، ” لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله ” .
نعم ، محمد صلى الله عليه وسلم بشر في خلقه ، بشر في ولادته ، بشر في طعامه وشرابه ، بشر في محياه ومماته ، ولكنه لا يستطيع عاقل – فضلاً عن مسلم – أن ينكر أو يجحد أنه أعلى أنواع البشر به في كل خصائصها ومزاياها ، فروحه أطهر الأرواح ، وعقله أكبر العقول ، ونفسه أزكى النفوس ، وفطرته أسلم الفطر ، وتفكيره أوسع أفقًا من كل تفكير وفطنته أنبه الفطن ، ورجولته أكمل رجولة ، وشجاعته أقوى شجاعة ، وقوته أشد قوة ، وقلبه أبر القلوب وأرحمها .
* * *
ولد محمد صلى الله عليه وسلم الولادة الثانية الروحية المعنوية ، النبوية العلمية حين أوحى الله إليه بعد انقضاء أربعين سنة من عمره الشريف . في ليلة القدر من ليالي شهر رمضان المعظم ، بينما محمد ( في غار حراء يتحنث – والتحنث ال