باب الفتوى
في طيران الميت بالنعش
إعداد رئيس التحرير
في طيران الميت بالنعش:
سألني الأخ الفاضل عبد العظيم حجازي بالإدارة العامة لدور المعلمين والمعلمات بوزارة التعليم عما شاهده من جريان المشيعين بنعش المتوفاة في قرية سنهوا مركز منيا القمح – شرقية، وعما ذكره له هؤلاء المشيعون من أنها تطير بالنعش، وأنها من دراويش أبي القاسم، وعن موقف الدين من هذا الموضوع.
وفي الجواب نكتفي بما ذكره فضيلة الشيخ محمود شلتوت – شيخ الجامع الأزهر – رحمة الله، في ص 182 من كتابه الفتاوى طبعة 1379هـ 1959م بمطبعة الأزهر، فقد قال – رحمه الله – ما نصه بالحرف.
يتحدث كثير من الناس عن طيران بعض الموتى، وهم محمولون على أعناق الرجال، وعن تراجع النعش بحامليه إلى الوراء، ويتحدثون عن ثقله مرة، وخفته أخرى، وتنتشر هذه الأحاديث، وتأخذ بين الناس صبغة الواقع الصحيح، كما يأخذ الموتى في معتقداتهم مكانة الأولياء الذين تبدو كراماتهم الحسية. وكثيرا ما ينشأ عن ذلك إقامة أضرحة لهؤلاء الموتى باسم الولاية، وتصبح تلك الأضرحة مزارات تلتمس بركاتها, ويدعى من فيها، ويتجه إليه في قضاء الحاجات، ورفع الملمات والكروب، كما يصبح للضريح أيضا خدم وموظفون يتلقون النذور والصدقات باسم ساكنه.
وقد سألني الكثيرون أن أبين لهم موقف الدين من هذه الأمور.
* * *
أخبار يلوح عليها الزيف:
والواقع أن صدق هذه الأخبار لا يكفي فيه مجرد سماعها، ولا مجرد رؤية النعش وهو محمول على الاعناق يتقهقر إلى الوراء أو يتقدم إلى الأمام، فضلا عن سماع طيرانه في السماء، لا يكفي سماع شيء من هذا في تصديقه، فالناس مولعون (مغرمون محبون) بتناقل الأخبار الغريبة، وفيهم من هو قابل لتصديق كل شيء يسمعه، فينقله ويتحدث به ويقسم عليه. إن صدق الأخبار يحتاج إلى الوثوق بصدق حاملي النعش، والوثوق بسلامة نفوسهم من الانفعالات الخاصة التي تورث الضعف في أعصابهم، وتجعلهم يتقهقرون أو يندفعون إلى الأمام بغير انتظام، والوثوق بأنه ليس لهم نوايا خاصة في إشاعة أن الميت له عند الله منزلة، يبني له بها ضريح، وتصنع له مقصورة، وتفتح أبوابه للزيارة والنذور، وتقام له الموالد والليالي، إلى غير ذلك مما يكون في واقعة مورد رزق جديد لحامليه، وإلى من أوعز إليهم بايجاد هذا المظهر.
لم يطر ميت محمول في سيارة:
ومن الغريب أنا لا نسمع بذلك إلا في القرى حيث تحمل الموتى على الأعناق، وإلا في عصورنا المتأخرة التي اتخذت فيها هذه المظاهر سبيلا للارتزاق، وسبيلا للتغرير بضعفاء العقول، لم نسمعه عن ميت محمول في سيارة، أو في قطار، أو في طائرة، لم نسمعه عن باخرة قافلة ( راجعة ) من بيت الله الحرام، وقد فاضت فيها روح حاج تقي تقى، له بالله صلة خاصة. لم نسمع أن جثته ثقلت أو امتنعت عن أيدي الذين يقذفونه في البحر حتى يحفظ من الحيتان والأسماك، ويدفن في القبور العادية.
لم يطر أحد من الصحابة:
لم نسمع شيئا من ذلك عن أحد ممن ماتوا في العصور الأولى للإسلام، خير القرون، وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة، وحماة الإسلام من الصديقين والشهداء والصالحين. وإذن، فنحن في حل من تكذيب كل ما نسمع من هذا القبيل، ونرفض هذه الأخبار، ولا نعني بالبحث عن أسرارها وأسبابها. والإنسان متى فارق هذه الحياة انقطعت صلته بالدنيا، وصار أمره لله وحده.
ومن غريب الأمر أن مثل هذه الأقاصيص المخترعة لا تروج إلا في زمن التقهقر الفكري، وانصراف الناس عن العمل الجاد المثمر، ولا تروج إلا في بيئات خاصة عرفت بالسذاجة وتصديق كل ما يقال.
وبعد:
فنصيحتي للسائلين أن يتجهوا بأسئلتهم نحو ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وليعلموا أن الحياة حياة السائل، وحياة المجيب، وحياة القارئ والمستمع – أعز من أن تضيع في السؤال والجواب عن طيران الموتى أو تقهقرهم أو تقدمهم، وليس في النعش سوى جثة هامدة ذهبت روحها إلى خالقها، وهو وحده العليم بحالها: ما لها وما عليها “ولا تقف – (لا يقف: لا تتبع ولا تتدخل)- ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا” [الإسراء: 36].
عنتر حشاد