باب السنة
يقدمه
فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم
الرئيس العام للجماعة
((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم: 4]
عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي. فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يارسول الله: إن أنساً غلام كيس (1) فليخدمك. قال فخدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أف (2) قط (3)، وما قال لي لشيء صنعته (4) لم صنعته (5)؟ ولا لشيء تركته(4) لم تركته (5)؟
رواه الجماعة
اللغة والمفردات
1-الكيس بسكون الياء الفطنة والذكاء، والكيس بتشديد الياء – اسم فاعل – العاقل المتبصر للأمور.
2أف: قال الراغب كل شيء مستقذر كقلامة الظفر ونحوها – كما تقال أف عند التضجر. ولذلك يقول النحاة عن لفظة أف: إنها فعل مضارع بمعنى أتضجر.
3-قط: ظرف زمان لاستغراق الماضي، وتختص، بالنفي فتقول: ما أكلت حراماً قط. وكما في قول أنس: ما قال لي أف قط. ولها في اللغة حالات متعددة ضبطاً ومعنى.
4-صنعته وتركته بتاء المتكلم المبنية على الضم.
5-صنعته وتركته بتاء المخاطب المبنية على الفتح.
المعنى
هذا الحديث مروي عن أنس بروايات مختلفة، منها : أن أمه (أم سليم) – رضي الله عنهما – أتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يارسول الله هذا غلام يخدمك فقبله صلى الله عليه وسلم. ومنها هذه الرواية التي تتضمن أن أبا طلحة زوج أم أنس هو الذي قدمه للنبي صلى الله عليه وسلم ويؤخذ من تعدد الروايات أن الاتفاق تام بين أبي طلحة وأم أنس على تقديم أنس لينال شرف خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم. ويحظى ببركات دعواته، ويتخلق بأخلاقه صلى الله عليه وسلم، ويتربى في بيت النبوة.
وأنس رضى الله عنه ممن طال عمره وحسن عمله، فمات عن أكثر من مائة سنة بقليل، وله من الذرية أكثر من عشرين ومائة، وكان آخر من مات من الصحابة. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له بالبركة فقال ((اللهم أكثر ماله وولده، وبارك له فيه وأدخله الجنة)) وكان له بستان يحمل في السنة من الفاكهة مرتين.
كان أنس من أكثر الصحابة رواية للحديث. أما أبو طلحة فهو أنصاري اسمه زيد بن سهل بن الأسود، ولكنه مشهور بكنيته، شهد بدراً وما بعدها من الغزوات. كان كثير الصيام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو زوج أم أنس التي تكنى بأم سليم. وقد بادرت إلى الإسلام بعد الهجرة مباشرة وزوجها مالك على الكفر. ففارقته لاختلاف الدين. ثم سافر لبعض شأنه فقتله عدو له. وكان أبو طلحة قد تأخر إسلامه لعدة أشهر من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فاتفق إن خطبها لنفسه وهومشرك. فأبت ودعته إلى الإسلام فأسلم. فقالت: إني أتزوجك ولا آخذ منك صداقاً (مهراً) لإسلامك فتزوجها أبو طلحة.
وفي سنن النسائي: أن أبا طلحة خطب أم سليم. فقالت: والله ما مثلك يا أبا طلحة يرد – بضم الياء – ولكنك رجل كافر، وأنا امرأة مسلمة لا يحل لي أن أتزوجك. فإن تدخل في الإسلام فذاك مهري، ولا أسألك غيره. فأسلم. فكان ذلك مهرها.
إن هذا المهر يقول عنه أحد الأئمة (فما سمعنا بامرأة كانت أكرم مهراً من أم سليم) رضي الله عنها.
بدأ أنس في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم وعمره يومئذٍ عشر سنين. فكان النبي يطعمه مما يطعم ويشربه مما يشرب، ويترفق به أكثر مما يترفق الآباء على أبنائهم.
وقد خدم النبي صلى الله عليه وسلم خدمة تتفق مع سنه، فلم يسمعه الرسول كلمة عقاب ولا توبيخ. ولم يقل له طوال هذه المدة كلمة تؤذي سمعه، ولم يقل له أقل ما يقال عند التضجر وهو كلمة (أف). فرباه الرسول على التسامح وترك المعاتبة. ومن مكارم أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم وسعة حلمه وكرمه أنه لم يعامله معاملة الخدم بالزجر ورفع الصوت، والعتاب على ما فات. ولكن تنزيه للسان واستئلاف خاطر الخادم بترك العتاب والعقاب.
ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم كان أحسن الناس خلقاً وأكرمهم شيماً، وأعرقهم صدقاً، وكفاه شهادة من ربه ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) [القلم: 4].
وقد سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن، يغضب لغضبه، ويرضى لرضاه.
أما الأمور اللازمة شرعاً فلا يتسامح فيها، لأنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد قالت عائشة رضي الله عنها (ما غضب النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم بها لله).
ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه مع أنس على هذه الخلال وحدها، بل كان مفطوراً على العلم والحلم، والصبر والسكون، والمودة والرحمة، والحياء والمروءة، وحب الخير لكل إنسان.
ولما كان عقله صلى الله عليه وسلم أرجح العقول، اتسعت مكارم أخلاقه للمنافقين والأعداء الذين كانوا يؤذونه إذا غاب ويتملقونه إذا حضر. وقد شق على أصحابه أن يصاب فلا يدعو على الأعداء. فقال لهم (ما بعثت لعاناً، ولكني بُعثت داعياً ورحم