باب السنة
يقدمه
فضيلة الشيخ محمد علي عبد الرحيم
الرئيس العام للجماعة
بطانة الخير وبطانة الشر
الحاكم الصالح يحسن اختيار الأعوان
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى) متفق عليه.
تعريف بالراوي
أبو سعيد الخدري، أشتهر بهذه الكنية، واسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد من الأنصار، ومن قبيلة الخزرج، أراد أن يخرج مع أبيه في غزوة أحد، فاستصغره النبي صلى الله عليه وسلم، واستشهد أبوه في تلك الغزوة، وشهد أبو سعيد ما بعدها من الغزوات. قال ابن حجر في الإصابة: لم يكن أحد من أحداث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أفقه من أبي سعيد الخدري.
قال أبو سعيد: قتل أبي يوم أحد شهيداً، وتركنا بغير مال. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فحين رآني قال ((من استغنى أغناه الله، ومن يستعفف يعفه الله) فرجعت. وأغناه الله، وكان من أفاضل الصحابة، ولا يخشى في الله لومة لائم. قال أبو سعيد: من أجل ذلك ذهبت من المدينة إلى معاوية في الشام، فملأت أذنه ثم رجعت (أي ملأت أذن معاوية نصحاً وإرشاداً). وكان يحب الحياة الصحراوية – شهد بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له يوماً: (أراك تحب الغنم والبادية، فإن كنت في غنمك أو باديتك، فارفع صوتك بالنداء ((الأذان)) فإنه لا يسمعك إنس ولا جن ولا شيء إلا كان شهيداً لك يوم القيامة).
معاني المفرادات
استخلف خليفة= جعله خليفة يحكم الناس
البطانة= خلاف الظهارة، ومنه بطنت ثوبي بآخر (بتشديد الطاء) أي جعلته تحته. قال الراغب: وتستعار البطانة لمن تخصه بالاطلاع على أسرارك.
المعروف= عمل الخير
تحضه عليه= ترغبه فيه وتحثه عليه، وتزينه له.
المعصوم من عصم الله = المحفوظ من فعل الشر، من تداركه الله بحفظه لتمسكه بدينه، والتزام طاعته.
المعنى
كل من وُليَّ أمراً من أمور الناس، كالحكام والأمراء والمحافظين والمديرين، والعمد ورؤساء المصالح والإدارات والهيئات والمؤسسات، قد تحملوا أمانة لها مسئوليتها أمام الله وبين الناس، تعرضهم لفتنة الحكم والرئاسة، والاستعلاء على المحكومين والمرءوسين. وكثيراً منهم تستولي عليه الغطرسة، والاستبداد برأيه، فتجرفه فتنة الرئاسة إلى البطش بالناس، والتعالي عليهم.
كما يرغب كثير من الناس في الالتفاف حولهم، جرياً وراء مغنم منهم، أو دفعاً لكيدهم أو أذى يخشونه منهم.
فبحكم مراكزهم المرموقة، تشرئب إليهم الأعناق، وترنو إليهم الأبصار، ويجد أهل الزلفى سبيلاً إلى طرق أبوابهم، والركون إليهم، كل يريد صيداً.
كما قال الشاعر:-
كل من في الوجود يطلب صيداً
غير أن الشباك مختلفات
وهؤلاء الراغبون في الحكام، والحريصون على مودتهم إن صدقاً وإن كذباً، لهم مآرب شتى. وهم نوعان: منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة.
والحاكم الصالح يحيط نفسه ببطانة صالحة، بمنزلة المستشارين الأمناء، يقفون مع الحق، ويخلصون له المشورة، فعليه أن يختار أصدقاءه وجلساءه من أهل التقوى والخبرة، الذين يقفون في وجه الباطل، ولديهم من الشجاعة ما يمكنهم من توجيه الحاكم إلى الخير، ويصدونه عن مزالق التهلكة ليتجنبها، ويبصرونه بالسبيل الأقوم، ويأخذون بيده إلى حيث السلام والنجاة – وليس ذلك محققاً إلا في الاعتصام بكتاب الله تعالى، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.
وبهذه الصورة يستهدي الحاكم الصالح في كل أمر كتاب الله، يحفظه من السوء، ويحق الحق، وينشر العدالة بين الناس – وأني له ذلك إلا بالأعوان المخلصين؟
والله تعالى يوجه الحاكم إلى اتخاذ البطانة الصالحة، فيقول عز وجل ((أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)) [آل عمران: 118]
ولو خالف الحاكم أمر الله واتخذ مستشاريه من بطانة السوء أو ولى السفهاء شئون المسلمين، تسلطوا عليه بزخرف القول، وعملوا على تشريد العناصر الصالحة، وزينوا له سوء عمله، بالمديح الكاذب، وخلعوا عليه ألقاب البطولة الزائفة، كأنه ملهم أو مؤيد من رب السماء.
وقد يزينون للحاكم الانتقام والبطش بالعناصر الصالحة، من دعاة الخير، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. فيسلط عليهم جبروته، ويزجهم في أعماق السجون،وقد يسفك الدماء البريئة، لا لذنب سوى أن يقولوا ربنا الله.
فعلى كل حاكم مسلم أن يحسن اختيار أعوانه ممن يصدعون بالحق، ولا يخشون في الله لومة لائم.
رُويَّ أن هارون الرشيد – الخليفة العباسي – كان يجالس العلماء، ويسترشد بآرائهم، فضم مجلسه يوماً ابن السماك. وذ