بسم الله الرحمن الرحيم
باب التفسير
يقدمه: عنتر أحمد حشاد
سورة البقرة
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [البقرة:91].
الحديث في هذه الآيات لا يزال في شأن بني إسرائيل المعاصرين للنبي – صلى الله عليه وسلم – ومناقشة كلماتهم التي كانوا يسممون بها جو الدعوة، ويلبسون بها على الناس.
وقد كان من كلماتهم التي يبررون بها عدم إيمانهم – إذا قيل لهم: آمنوا بما أنزل الله – قولهم: ((نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا))، فهو الذي نثق بأنه من عند الله، ولا شأن لنا بغيره، فيرد الله – تعالى – عليهم بأن القرآن الذي يطلب منهم الإيمان به هو ((الْحَقُّ)) الذي تنشده الفطرة، ويشهد بصحته الوجدان، وهو مصدق لما أنزل عليهم، فإذا كفروا به فقد كفروا بما أُنزل عليهم، وقد قتلوا أنبياء الله الذين بلغوهم إياه؟.
كفر بني إسرائيل بكل كتاب، حتى بالتوراة:
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ (1) قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا (2)وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ (3)وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) [البقرة:91].
وإذا قيل لهؤلاء اليهود: آمنوا بالقرآن الذي أنزله الله – قالوا: لا نؤمن إلا بما أُنزل علينا، يعنون: التوراة، وكفى، ويجحدون بما جاء بعد التوراة من كتب منزلة، ومنها القرآن، مع أنه هو الحق، لاشتماله على الأحكام المطابقة للواقع، المصدق لما مع اليهود،وهو التوراة، فكل منهما يدل على نبوة النبي – صلى الله عليه وسلم – وبهذا كان مؤيداً للتوراة التي بشرت بالنبي – صلى الله عليه وسلم – وذكرت له نعوتاً وأوصافاً لا تنطبق إلا عليه، كما جاء بالتوحيد وسائر العقائد الصحيحة فإذا ما كفروا بالقرآن، وهو الحق مصدقاً لما معهم فقد كفروا بما معهم من التوراة، وكانوا كاذبين في دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم، لأنهم لم يؤمنوا بمحمد – صلى الله عليه وسلم – الذي بشرت به توراتهم، وأمرتهم بالإيمان به، وأيدها القرآن الكريم في ذلك، ولأنهم خالفوا عن أمر الله في التوراة بتصديق أنبيائهم وأتباعهم، فكذبوا فريقاً، وقتلوا فريقاً، فقل لهم أيها النبي: ((فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ؟)).
فما لبني إسرائيل وللحق؟ وما لهم أن يكون مصدقاً لما معهم ما داموا لم يستأثروا هم به؟ إنهم يعبدون أنفسهم،ويتعبدون لعصبيتهم، لا بل إنهم ليعبدون هواهم.
لقد جعلهم تكبرهم وتعصبهم العنصري نافرين من الحق كارهين له، لمجرد أنه جاءهم على يد محمد عليه الصلاة والسلام، وهو من ولد إسماعيل، لا من نسل إسرائيل (يعقوب) بن إسحق، إذ هم كانوا يودون أن يكون هذا النبي الذي طالما ارتقبوه، واشرأبت إليه أعناقهم (4) – كانوا يودون أن يكون هذا النبي من صلبهم وعنصرهم. فلما جاءهم من عرق، هو في نظرهم أقل رتبة من عنصرهم رفضوا تصديقه. ومعنى هذا أن الله جل شأنه كان عليه أن يستشيرهم قبل أن يصطفى رسوله، أما وقد اختار بنفسه رسولاً فقد أخطأ – في نظرهم – سبحانه وتعالى.
والخطاب في هذه الآية لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم – وقد أسند القتل وهو من آبائهم – إليهم، لرضاهم به، فإن من رضى بالمعصية كان كمن فعلها وإن كان غائباً عنها، وكما يقال – مجازاً – لقبيلة: أنتم قتلتم فلاناً، والقاتل – حقيقة – آباؤهم، على معنى: أن الأمر فيكم من قديم على القتل.
والتعبير بالمضارع: ((فَلِمَ تَقْتُلُونَ))؟ مكان الماضي ((فلم قتلتم))؟ استحضار لصورة القتل، كأنها تحدث الآن، إظهاراً لفظاعته، وشناعته، كما مضى في قوله تعالى: ((فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)) [البقرة: 87].
وقوله تعالى: ((إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)) تشكيك في إيمانهم بالتوراة بعد أن أقامت الآية الكريمة الأدلة المتعددة، والبراهين القاطعة على كذب اليهود في دعواهم الإيمان بما أُنزل عليهم، ووبختهم على مزاعمهم الباطلة، وأقوالهم الفاسدة.
هذا، ولفضيلة أستاذنا الدكتور محمد عبد الله دراز – رحمه الله –في هذه الآية الكريمة، كلام رصين يوجه به أنظارنا – بنوع خاص – على دقة التعبير القرآني، ومتانة نظمه، وعجيب تصرفه حتى يؤدي لك المعنى الوافر الثري، في اللفظ القاصد النقي، يقول ما خلاصته:
«يقول الله تعالى في ذكر حجاج اليهود:
((وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ءَامِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَ