الهوى يهوى بصاحبه إلى أتعس عاقبة
بقلم الإمام الراحل محمد حامد الفقي رئيس عام جماعة أنصار السنة المحمدية (رحمه الله)
( 45: 23 أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله الله على علم، وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة؟ فمن يهديه من بعد الله؟).
قد جبل الله كل نفس بشرية على طبيعة الحب والإرادة، لتقبل على جلب ما هى بحاجة إليه في أولاها وأخراها . ثم جعل أمامها في كلتا الحياتين طريقين: طريقا إلى اليمين، وطريقا إلى الشمال. فذات اليمين: يمشي سالكها إلى كل غاياتها بطبيعة الحب والإرادة. وذات الشمال: يمشي سالكها كذلك بطبيعة الحب والإرادة غير أن أهل الشمال يسمى حبهم وإرادتهم: هوى وسفها، وأهل اليمين يسمى حبهم وإرادتهم: رشدًا وحكمة.
ذلك: لأن أهل اليمين لا يسيرون في طريقهم بمجرد الحب والإرادة. بل بالحب والإرادة الخاضعين للعلم الصحيح، المستفاد من التفكر في سنن الكون وحقائقه، من وحي الله وهداية رسله. وأهل الشمال: يسيرون في طريقهم بمجرد الحب والإرادة ، لا يقيدونها بعلم من سنن الكون، ولا بعلم من الوحي والرسالة فاهتدى الأولون وأفلحوا وضل الآخرون وخابوا وخسروا.
ولقد فتن الله الإنسان بأن جعل لكل شأن من شئونه، وجبلة من جبلاته طرفين، واحدًا يذهب بها ذات اليمين، وأخر يذهب بها ذات الشمال. ثم سخر له من السنن والآيات في نفسه وفي الآفاق وأنزل له من العلم: ما يميز به الطرف الأيمن، ويحببه إليه، ويهديه لحقيقته، فيمسك به حريصًا عليه، ويذهب به سالكا طريق أهل اليمين، وابتلاه بإبليس يعميه ويغفله عن الطرف الأيمن، ويبغضه إليه، ويزين الطرف الأيسر، ويحببه إليه، حتى يمسك به، ويحرص عليه، فيذهب سالكا طريق أهل الشمال.
وإن الله ليحب أهل اليمين – وكلتا يدي ربنا يمين – فمن ثم تعهد الإنسان في كل أطواره ببعث الرسل إليه تتري، ليبدد بهدى الرسالة ظلمات الجهل التي – في ثناياها – زين إبليس للناس ذات الشمال، فهوى بهم إلى أسوأ العاقبة، وأنزل الكتب ليبقى بعد الرسل سراجًا منيرًا يبدد هذه الظلمات، ويهدي إلى ذات اليمين، وأكثر الناس يغلبهم الهوى والحب المجرد عن العلم، فيعودون إلى ظلمات الجهل، فيزين لهم الشيطان، ويأخذهم معه ذات الشمال، حتى ختم الله رسله بمحمد صلى الله عليه وسلم، وختم كتبه بالقرآن، الذي جمع فيه كل عناصر النور والهدى والتقويم لكل ما حدث من الزيغ بوسوسة إبليس وتزيينه، ولكل ما يحدث إلى قيام الساعة. ومن ثم حشد فيه كل عبر الماضين، وخوف من الغفلة عنها، وأكد فيه بأنواع التأكيد أنه الهدى المطلق والمهيمن على كل قول وكتاب وأنه الشفاء من كل أمراض القلوب وعلل النفوس، وأنه حفظه بأنواع الحفظ، يحدث الناس جديدًا، كما أنزله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وأمر نبيه – الذي اختاره لحمل الأمانة عنه: أن يبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، لعلهم يتفكرون في آياته فيفهموها ويعرفوا القصد المراد من إنزالها في صفات الرب وحقوقه، وصفات العبد وحقوقه حتى يقيم بذلك ربنا الحجة: أنه لم يدع للناس مجالا ولا عذرًا: أن يعموا عن صراطه المستقيم، ويقعوا بأهوائهم فيما يزين لهم إبليس من طرق المغضوب عليهم والضالين.
فبين الرسول صلى الله عليه وسلم بعمله وحاله وقوله ما أمره الله أن يبينه، وترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. لا يزيغ عنها إلا هالك. وعرف ذلك أصدق المعرفة أصحابه، الذين اختارهم الله لصحبة نبيه، ومؤازرته على تبليغ رسالة ربه فاستمسكوا بالقرآن يتلونه حق تلاوته، ويبادرون إلى محابهم وإرادتهم فيحكمونه عليها، فيبعد عنهم الهوى، ويندفعون في تنفيذ شرائعه وأحكامه في الفرد والمجتمع. والحاكم والمحكوم على سواء، قوامين بالقسط، شهداء على أنفسهم، لا تأخذهم في الله لومة لائم. وكانوا بذلك على نور تام من ربهم وكتابه، يلمحون بارقة الفتنة، فيعاجلونها بالعلاج الحاسم، فيرتد الشيطان خاسئًا. انظر إلى عمر رضي الله عنه، وقد جاءه من غلبه الشيطان، فنطق على لسانه بفتنة (الذاريات ذروا) فسأل عمر عن معناها فقد أشكل عليه – زعم – فرأي عمر بنوره التام: أنه ليس معنى (الذاريات) الذي خفي وأشكل عليه. فلقد كان اللسان لا يزال عربيا بالفطرة التي لم تفسد بعد بلكنة الأعاجم، وإنما هو ريح الفتنة يفور في رأسه فضريه بالجريد، وهو يقول: حتى يخرج الشيطان من رأسك، حتى أوجعه، ثم نفاه إلى البصرة، وحذر الناس من مكالمته.
ولكن لم يقعد هذا الشيطان أن يعمل على التخلص من عمر، فأوحى إلى حزبه، فقتلوه رضي الله عنه وأرضاه، واستطاع الشيطان بعده: أن يخرق بأصابعه في هذا المجتمع – وقد كثر فيه الدخيل – ثقوبا، نفث من خلالها ريح الفتنة، وغفل الناس – لأمر قضاه الله – حتى اشتعلت نارها واستعر أوارها. وكان أمر الله قدرًا مقدورًا. فلعب على أيدي حزبه من الفرس واليهود وأشباههم من أعداء الله ورسله من ذوي الحمية الشيطانية والعصبيات الجاهلية. فكانت فتنة قتل عثمان،