الهجرة باقية
بقلم الدكتور :
عبد العظيم بدوي
قال تعالى : { إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض اللَّه واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا @ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلاً @ فأولئك عسى اللَّه أن يعفو عنهم وكان اللَّه عفوًّا غفورًا } [ النساء : 97- 99 ] .
الهجرة لغة : الخروج من أرض إلى أرض .
وشرعـًا : الخروج من أرض الكفر ( وهي التي تكون السيادة والغلبة فيها لأحكام الكفر ) إلى أرض الإسلام ( وهي التي تكون السيادة والغلبة فيها لأحكام الإسلام ) .
ولما هاجر النبي صلى اللَّه عليه وسلم إلى المدينة وأقام دولة الإسلام بها وصارت لهذه الدولة شوكة لم تكن ثمَّ أرض إسلام سواها ، فكانت الهجرة إليها على كل من أسلم من غير أهلها واجبة ، حتى أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم كان يشترط على من يبايعه على الإسلام أن يبايعه على الهجرة أيضـًا .
عن أبي نُخَيلة البجلي قال : قال جرير : أتيت النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو يبايع ، فقلت : يا رسول اللَّه ! ابسط يدك حتى أبايعك ، واشترط عليَّ فأنت أعلم ، فقال صلى اللَّه عليه وسلم : (( أبايعك على أن تعبد اللَّه ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتناصح المسلمين ، وتفارق المشركين )) . [ النسائي : 148/7 ] .
وكان صلى اللَّه عليه وسلم يتبرأ ممن أسلم ولم يهاجر ، فكان يقول : (( برئت الذمة ممن أقام مع المشركين في بلادهم )) . [ (( السلسلة الصحيحة )) : 768 ] .
وكان يقول : (( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله )) . [ أبو داود : 2770 ] .
وعن جرير بن عبد اللَّه قال : بعث رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم سرية إلى خثعم ، فاعتصم ناس منهم بالسجود ، فأسرع فيهم القتل ، قال : فبلغ ذلك النبي صلى اللَّه عليه وسلم ، فأمر لهم بنصف العقل(1) ، وقال : (( أنا بريء من كل مسلم يُقيم بين أظهر المشركين )) . قالوا : يا رسول اللَّه ، لِمَ ؟ قال : (( لا تراءى ناراهما )) . [ أبو داود : 2628 ] .
قال ابن القيم ، رحمه اللَّه : قال بعض أهل العلم : إنما أمر لهم بنصف العقل بعد علمه بإسلامهم ؛ لأنهم قد أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار ، فكانوا كمن هلك بجناية نفسه وجناية غيره ، وهذا حسنٌ جدًّا ، والذي يظهر من معنى الحديث ؛ أن النار هي شعار القوم عند النزول وعلامتهم ، وهي تدعو إليهم ، والطارق يأنس بها ، فإذا ألمّ بها جاور أهلها وسالمهم ، فنار المشركين تدعو إلى الشيطان وإلى نار الآخرة ، فإنها إنما توقد في معصية اللَّه ، ونار المؤمنين تدعو إلى اللَّه وإلى طاعته وإعزاز دينه ، فكيف تتفق الناران ، وهذا شأنهما ؟ وهذا من أفصح الكلام وأجزله ، المشتمل على المعنى الكثير الجليل بأوجز عبارة . اهـ . [ (( معالم السنن وتهذيبها )) : 436، 437/3 ] .
وفي هذه الآيات وعيدٌ شديد للقاعدين عن الهجرة مع القدرة عليها ، حيث وصفهم اللَّه تعالى بأنهم : { ظالمي أنفسهم } ، وأن ملائكة الموت توبخهم على ظلمهم هذا لأنفسهم وتسألهم سؤال توبيخ وتأنيب ، فتقول لهم عند الوفاة : { فيم كنتم } ؟ فلم يجدوا إلا الكذب : { قالوا كنا مستضعفين في الأرض } ، ولم يكونوا كذلك ؛ لأن اللَّه توعدهم واستثنى المستضعفين حقـًّا ، فلو كانوا صادقين في كونهم مستضعفين لعفا عنهم ، ولكنه قال : { فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا } ، وذلك بعد رد الملائكة عليهم بقولهم : { ألم تكن أرض اللَّه واسعة فتهاجروا فيها } ؟ فلم رضيتم بالذل والهوان واستسلمتم لتسلّط المشركين عليكم ، وأنتم قادرون على الهجرة إلى أرض العزة والكرامة ، التي تطمئنون فيها على أنفسكم ، وتأمنون على دينكم ؟
ومن الجدير بالذكر أن هذا الوعيد للمسلمين القاعدين عن الهجرة من أرض الكفر إلى أرض الإسلام مع القدرة عليها لا يستلزم كفرهم ولا خلودهم في النار خلود الكافرين الأصليين ، فإن القول في أهل الكبائر من المسلمين ما قال الإمام الطحاوي ، رحمه اللَّه : وأهل الكبائر من أمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون ، وإن لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا اللَّه عارفين ، وهم في مشيئته وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل
في كتابه : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 116 ] ، وإن شاء عذبهم في النار بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم إلى جنته . [ (( شرح الطحاوية )) : 416، 417 ] .
ثم استثنى اللَّه تعالى المستضعفين حقـًّا فقال : { إلا المستضعفين من الرجال } بعمًى ، أو عرج ، أو مرض ، أو تسلّط الكافرين ، { والنساء } وهن ضعيفات بأصل خلقتهن ، { والولدان } ، وهم أضعف { لا يستطيعون حيلة } يتمكنون بها من الهجرة { ولا يهتدون سبيلاً } إليها ، ولا يعرفون طري