المعجزة الخالدة
في القرآن المجيد
بقلم الأستاذ
الدكتور زكريا البري
رئيس قسم الشريعة كلية حقوق القاهرة
تناولنا في عدد سابق بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم، ونبين الآن بعضها فيما يلي:
* اشتمال هذا القرآن العظيم على أسرار كونية وحقائق علمية، لا يزال العلم يكشف لنا كل يوم جديدًا منها، يقطع بأن هذا القرآن من عند الله الذي أحاط بكل شيء علمًا، وليس من عند بشر: فردًا أو جماعة، فإن هذه الحقائق العلمية لم تكن معروفة لأحد قديمًا، حتى توصل إليها العلماء والباحثون في العصور التالية، وكان في قرآن الله ما يشير إليها، ويلفت الأنظار إلى معرفتها.
فقد أخبر الكتاب بأن السموات والأرض كانتا رتقًا وشيئًا واحدًا، ثم انفصلت الأرض عن السماء، في قوله – عزَّ وجلَّ: (أوَلم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقًا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون). وقد أثبتت البحوث العلمية ذلك فيما بعد.
كما أخبر عن مراحل تكوين الإنسان في بطن أمه، في قوله – سبحانه- : (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله رب العالمين) وقد انتهت الدراسات العلمية والمعملية إلى هذا الذي نطق به القرآن.
ومن ذلك ما أرشد إليه القرآن من اختلاف بصمات أصابع الإنسان، في قول الحكيم العليم: (أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه بلى قادرين على أن نسوي بنانه)، مما لفت الأنظار إلى قدرة الله – سبحانه – وحكمته في خلق البنان بصورة مختلفة من إنسان إلى إنسان، مما يترتب عليه اختلاف بصمات الأصابع، وهو ما أثبته العلم الحديث، وأصبح وسيلة علمية في التعرف على الأشخاص والتمييز بينهم، وكشف المجرمين بعد معرفة بصماتهم.
وننبه إلى أن القرآن إذا كان قد اشتمل في بعض آياته على هذه الحقائق العلمية، فليس معنى ذلك أنه كتاب علمي جاء ليعلم الناس الحقائق العلمية، فإن القرآن الكريم كتاب هداية وتشريع، يحبب الإيمان إلى الناس ويزينه في قلوبهم، ويكرِّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، ويرسم لهم مناهج صلاح الحياة الدنيا، وسعادة الحياة الأخرى، والآخرة خير وأبقى، وتلك الحقائق العلمية الصحيحة التي أشارت إليها آياته، وكانت للفت الأنظار إلى قدرة الله سبحانه وتعالى وعلمه وحكمته، والدلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته، وفتح الأبواب أمام العقول البشرية لتبحث عن أسرار هذا الكون الإلهي الفسيح.
كما ننبه إلى أن هناك فرقًا بين هذه الحقائق العلمية الثابتة وبين النظريات العلمية التي يذهب إليها بعض الباحثين، والتي لا تزال محل البحث والنظر، فإن الاستشهاد لهذه النظريات ببعض الآيات القرآنية، يكون صورة من صور التفسير القرآني الذي يكون فيه الخطأ من المفسر إذا كانت النظرية غير صحيحة دون أن يكون في ذلك مساس بقدسية القرآن الكريم. والشأن في هذا هو الشأن فيما حملته بعض كتب التفسير من آراء للمفسرين ، ثبت عدم صحتها.
اشتمال القرآن المجيد على الشريعة الإسلامية التي تنظم أحكامها جميع العلاقات الإنسانية تنظيمًا دقيقًا محكمًا، يحقق خير الناس وصلاحهم، والتي جاءت بمبادئ أساسية في ذلك كانت نبراسًا استضاء به العلماء والمشرعون. فإن هذه التشريعات القرآنية غير المسبوقة لا يمكن أن تكون من وضع بشر ولا جماعة، وبخاصة في هذا الزمن البعيد الذي كانت قد عمته الجهالة والفوضى.
وإلى هذا يشير قول الإمام القرطبي: (ومن وجوه إعجاز القرآن ما تضمنه من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام). القرطبي جـ1 ، ص 57.
ويوضحه قول الفقيه ابن القيم: (إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها. ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. الشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله). أعلام الموقعين.
ولا يتسع المقام إلا لهذه الإشارة السريعة، وقد يتسع فيما بعد لتناول هذا الجانب العظيم ببعض التفصيل.
* بقاء القرآن وخلوده محفوظًا مرتلاً سرًا وعلانية، دون تحريف ولا تبديل، مصدقاً لقول الله تعالى فيه: (إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون)، وهذا أمر لم يتحقق لأي كتاب ظهر في الوجود حتى الكتب السماوية الأخرى، فقد أصابها التحريف وانقطاع السند، حيث لم يتكفل الله بحفظها الدائم، لأنها كتب كانت لرسالات وقتية غير خالدة، بل وكلها إلى حفظ أصحابها، يروي أبو عمرو الداني في طبقات القراء عن أبي الحسن قال: كنت يومًا عند القاضي أبي إسحاق، فقيل له: لِمَ جاز التبديل على أهل التوراة، ولم يجز على أهل القرآ