الله خالق كل شيء وما سواه مخلوق
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فقد كتب إلى بعض الأخوان يذكر أنه ألقى عليه بعض زملائه شبهة قائلا أنه يعترف أن الله سبحانه هو خالق السماوات، والأرض، والعرش، والكرسي، وكل شيء، ولكنه يسأل قائلا: الله ممن تكون؟ فأجابه بقوله له: كلامك الأول صحيح لا تعليق عليه، أما قولك الثاني- وهو قولك: الله ممن تكون- فلا يقوله مسلم، وينبغي أن يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم لم يسألوا مثل هذا السؤال، وهم الفطاحل في العلم، وقال له أيضا: إن الله سبحانه قال عن نفسه: ) ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ( وقال:) هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم ( إلى آخر ما ذكره، ورغب إلى في الإجابة عن هذه الشبهة فأجبته عن ذلك بما نصه:-
اعلم- وفقني الله وإياك، وسائر المسلمين، للفقه في دينه، والثبات عليه- أن شياطين الإنس والجن، لم يزالوا ولن يزالوا، يوردون الكثير من الشبه على أهل الإسلام وغيرهم، للتشكيك في الحق، وإخراج المسلم من النور إلى الظلمات وتثبيت الكافر على عقيدته الباطلة، وما ذاك إلا لما سبق في علم الله، وقدره السابق، من جعل هذه الدار دار ابتلاء وامتحان، وصراع بين الحق والباطل، حتى يتبين طالب الهدي من غيره، وحتى يتبين الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، كما قال الله سبحانه: ) ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذي صدقوا، وليعلمن الكاذبين ( وقال سبحانه: ) ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم ( وقال تعالى: ) وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم، ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون ( وقال سبحانه: ) وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون ( فأوضح سبحانه في الآيات الأولى والثانية والثالثة أنه يبتلي مدعي الإيمان بشيء من الفتن، ليتبين صدقه في إيمانه وعدمه.
وأخبر سبحانه أنه فعل ذلك بمن مضى، ليعلم سبحانه الصادقين من الكاذبين، وهذه الفتنة تشمل فتنة المال، والفقر، والمرض، والصحة، والعدو وما يلقي الشياطين من الإنس والجن من أنواع الشبه، وغير ذلك من أنواع الفتن، فيتبين بعد ذلك الصادق في إيمانه من الكاذب، ويعلم الله ذلك علما ظاهرا موجودا في الخارج، بعد علمه السابق، لأنه سبحانه قد سبق في علمه كل شيء، كما قال عز وجل: ) لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال وعرشه على الماء” خرجه مسلم في صحيحه، ولكنه عز وجل لا يؤاخذ العباد بمقتضى علمه السابق، وإنما يؤاخذهم ويثيبهم على ما يعلمه منهم بعد عملهم إياه، ووجوده منهم في الخارج، وذكر في الآيات الرابعة والخامسة والسادسة أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم من أنواع الشبه، وزخرف القول، ما يغرونهم به ليجادلوا به أهل الحق، ويشبهوا به على أهل الإيمان، ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، وليرضوا به، فيصولوا ويجولوا، ويلبسوا الحق بالباطل، ليشككوا الناس في الحق، ويصدوهم عن الهدي، وما الله بغافل عما يعملون، لكن من رحمته عز وجل: أن قيض لهؤلاء الشياطين وأوليائهم من يكشف باطلهم، ويزيح شبهتهم بالحجج الدامغة، والبراهين القاطعة، فيقيموا بذلك الحجة، ويقطعوا المعذرة، وأنزل كتابه سبحانه تبيانا لكل شيء، كما قال عز وجل ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ( وقال سبحانه: ) ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا( قال بعض السلف: هذه الآية عامة لكل حجة يأتي بها أهل الباطل إلى يوم القيامة، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن بعض الصحابة- رضي الله عنهم- قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان. قال بعض أهل العلم في تفسير ذلك: إن الإنسان قد يوقع الشيطان في نفسه من الشكوك والوساوس ما يصعب عليه أن ينطق به، لعظم بشاعته، ونكارته، حتى أن خروره من السماء أهون عليه من أن ينطق به، فاستنكار العبد لهذه الوساوس، واستعظامه إياها، ومحاربته لها، هو صريح الإيمان. لان إيمانه الصادق بالله عز وجل. وبكمال أسمائه، وصفاته، وأنه لا شبيه له، ولا ند له، وإنه الخلاق العليم، الحكيم الخبير يقتضي منه إنكار هذه الشكوك والوساوس، ومحاربتها، واعتقاد بطلانها، ولا شك أن ما ذكره لك هذا الزميل، من جملة الوساوس، وقد أحسنت ف