دروس في الفقه الإسلامي
باب العبادات
أحمد فهمي أحمد
خصال الفطرة
2- إعفاء اللحية وقص الشارب
تحدثنا في المقال السابق عن بعض خصال الفطرة، وهي الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، ونواصل الحديث في هذا المقال عن البعض الآخر من خصال الفطرة، وهو: إعفاء اللحية، وقص الشارب أو إحفاؤه- فنقول، وباللَّه التوفيق:
1- روى مسلم في صحيحه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” أحفوا ( في القاموس: أحفى شاربه أي استقصى في أخذه ) الشوارب، وأعفوا ( عفا الشعر أي كثر، وأعفوا اللحى أي كثروا شعرها ) اللحى”. وفي رواية مسلم: ” خالفوا المشركين: أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى”. وفي رواية ثالثة لمسلم أيضًا: ” جزوا الشوارب، وأرخوا ( أرخوا اللحى: أرسلوها ) اللحى، خالفوا المجوس”.
2- روى البخاري في صحيحه عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” أنهكوا ( أنهكوا الشوارب: بالغوا في قصها ) الشوارب، وأعفوا اللحى”. وفي رواية أخرى للبخاري: ” خالفوا المشركين: وفروا اللحى وأحفوا الشوارب، وكان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته، فما فضل أخذه”.
3- روى البخاري في صحيحه- في باب قص الشارب- قال: ” وكان ابن عمر يحفي شاربه، حتى يُنظر ( ينظر: بضم الياء: مبنى للمجهول ) إلى بياض الجلد، ويأخذ هذين، يعنى ما بين الشارب واللحية”.
4- روى أحمد والنسائي والترمذي، عن زيد بن أرقم رضي اللَّه عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” من لم يأخذ من شاربه فليس منا” ( فليس منا: أي فليس على هدينا أو ليس على طريقنا، ولا تعني هذه الكلمة أنه كفر وخرج من الملة ) وقال الترمذي حديث صحيح.
وقد بينت هذه الأحاديث الحكمة من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتوفير اللحى، وإحفاء الشارب، وهي مخالفة المجوس عباد النار والمشركين، فقد كان الأعاجم يقصون لحاهم، ويوفرون شواربهم، أو يوفرونها معًا، فجاء الإسلام بهذه الأوامر ليكون ذلك مظهرًا من مظاهر الوقار، ولكي يربي المسلمين على استقلال الشخصية، والتميز عن غيرهم في مظهرهم، كما تميزوا عنهم في مخبرهم.
وإذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد بين أن إعفاء اللحية من الفطرة، التي هي الدين كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ…..} [الروم: 30]، فكأن حلق اللحية تمرد على هذه الفطرة وهذا الدين، ويعد تبديلاً لخلق اللَّه عز وجل، وتشبهًا بالنساء في نعومة الوجه، بل بالنسبة للنساء: فقد لعن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المرأة المتنمصة، أي التي تزيل الشعر من أطراف وجهها، وترقق حاجبيها، فإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للمرأة التي جعلها اللَّه عز وجل سكنًا لزوجها، فإن ذلك يبين لنا مدى الإثم الذي يحمله من يحلقون لحاهم، لأنهم بذلك يتشبهون بالنساء، ويقلدون المجوس، ويقلدون المشركين، غافلين عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفتهم، ونهيه عن التشبه بهم، كما قال صلى الله عليه وسلم : ” من تشبه بقوم فهو منهم” رواه أبو داود عن ابن عمر.
كما أن جمهور الفقهاء على تحريم حلق اللحية، مستدلين بأمر الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه بإعفائها، والأصل في الأمر الوجوب، وخاصة أنه علل بمخالفة المجوس والمشركين، ومخالفتهم واجبة، وليست مستحبة فقط.
ومن البلايا التي عمت أن بعض علمائنا المعاصرين يحلقون لحاهم، ويبيحون ذلك للناس، معللين رأيهم هذا بأن إعفاء اللحية ليس من أمور الشرع التي يتعبد بها، وإنما هو من الأفعال العادية للرسول صلى الله عليه وسلم . ولكن الحق هو كما بينا أن إعفاء اللحى، جاء به الأمر البين الواضح من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، معللاً بمخالفة المجوس والمشركين، ولم يثبت أن واحدًا من السلف الصالح كان يحلق لحيته، بل كلهم بلا استثناء عمل على مخالفة المشركين.
وقد قرر ابن تيمية- رحمه اللَّه- أن مخالفة المشركين أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة. قال: وقد دل الكتاب، والسنة، والإجماع، على الأمر بمخالفة المشركين، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط علق الحكم به، ودار التحريم عليه، فمشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل في المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر، أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببًا إلى الفساد، فالشارع يحرمه , اهـ ( كتاب اقتضاء الصراط المستقيم ) ( عن كتاب الحلال والحرام في الإسلام للدكتور يوسف القرضاوي ).
أما عن الشارب فالسنة فيه:- كما بينتها الأحاديث السالفة- هي القص، أو الجز، أو الإحفا