قد جاءكم من اللَّه نور وكتاب مبين
المعاني الإسلامية في القرآن
– 3 –
الصيام عبادة وتربية
للأستاذ : سيد رزق الطويل المدرس بالمدارس الثانوية بالجيزة
الحديث موصول :
في البحثين السابقين تحدثت عن الإخلاص ” والعبودية ” ، وهما ركنا العقيدة القويمة التي جاء بها الإسلام ، وبتلاقيهما يتكامل بنيانها ، وتتوثق عراها ، ويظهر تأثيرها .
هذه العقيدة بإيجاز تتركز في كلمات هي : ” إخلاص العبادة لله ” .
والعبودية لله – كما أسلفت في مقال سابق – مستوى رفيع تتسامى إليه نفس الإنسان ، ومنها يكون منطلق الإنسان نحو التقدم الفكري والحضاري والاجتماعي .
* والعبودية لها مظاهر شتى :
* وأختار من بين مظاهرها في هذا اللقاء ” عبادة الصيام ” لتناسب الشهر الكريم الذي يظل المسلمين ، والذي جعله الله ميقاتًا لأداء هذه العبادة الكريمة .
وسيكون حديثي عن الصيام – حسب المنهج الذي أسير عليه – على ضوء تناول القرآن للفظ الصيام ومشتقاته .
الصيام في القرآن الكريم :
ترددت كلمة الصوم والصيام ومشتقاتهما في أربعة عشر موضعًا من كتاب الله – في سورة البقرة ، والنساء والمائدة ، ومريم ، والأحزاب – وكان استعمال القرآن الكريم لها على خمسة أنحاء :
1- الصيام تاريخيًا :
تحدث القرآن الكريم عن عبادة الصيام في الديانات السماوية السابقة للإسلام ، وأنه في الإسلام لم يكن بدعًا ، وإنما هو منهج مرسوم لشرعة الإيمان القويم في كل دين ، يصدق الإيمان إلا بأن يمسك صاحبه – فترة ما – عن شيء من الحلال ، ليعتاد الإسلام عن الحرام .
وأول إشارة تاريخية في القرآن إلى صيام السابقين قوله تعالى في سورة البقرة : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم } .
ومن هذه الآية نرى أن الصيام كان مكتوبًا على الأمم التي سبقت أمتنا ممن دعوا ، إلى رسالة الإسلام التي دعينا إليها .
غير أن أسلوبهم في الصيام كان على غير أسلوبنا ، وأداءهم له يختلف عن أدائنا وقد أسلفنا أن الصيام – لغويًّا – تتعدد صوره ، وفي الوقت نفسه يتحد جوهره .
وقد تحدث القرآن الكريم في موضع من المواضع التي استعملت فيها كلمة الصوم عن صورة من صيام السابقين ، وهو صيام مريم رضي اللَّه عنها عن الكلام ، وإيثارها للصمت عندما واجهها قومها بالشك المريب ، والتجريح الذي تضيق به نفس الكريم ، قال تعالى : { فإما ترين من البشر أحدًا فقولي : إني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم إنسيًا } .
وقد ذكر القرآن هذا اللون من الصيام ، وإن لم يذكر بلفظ الصوم – في حديثه عن زكريا عليه السلام وقد بشرته الملائكة بيحيى مصدقًا لما بين يديه ، وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين ، وطلب زكريا آية فقال الله له : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } .
* والصيام عن الكلام وإن كان عبادة سابقة إلا أنه في تقديري خلق أقوم لكل ذي دين ، ومتى استطاع المسلم التحكم في جارحة اللسان فقد عصم عقيدته ، وصان عبادته ، وقطع في طريق السلوك القويم أبعد الآماد .
2- الصيام تربويًا :
* وأمثل مناهج التربية ما يتجه إلى العقيدة ؛ بقيمها على أسس قويمة تعتمد على الإيمان الصادق بالله ، والخالص لوجهه الكريم .
* وتناول القرآن هذه الناحية في موضع واحد هو قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } .
* أجل الصيام الصادق ينتهي بصاحبه إلى أعلى درجات الإيمان التي تقيم في داخل المؤمن حارسًا على قوله وعمله ، وهو ما نسميه مراقبة الله وتقواه . { لعلكم تتقون } .
* وعمل ينتهي بصاحبه إلى هذه الغاية النبيلة لا شك أنه من أسمى الأعمال .
* والغايات النبيلة لا بد أن تكون وسائلها نبيلة .
3- الصيام فقهيًا :
وقد تناولها القرآن الكريم عدة نواح فقهية في عبادة الصيام في الإسلام .
( أ ) رؤية الهلال :
الصيام يجب على المسلمين متى شهدوا الهلال . قال تعالى في سورة البقرة : { من فشهد منكم الشهر فليصمه } .
( ب ) مباشرة النساء في رمضان :
القرآن الكريم أشار إلى إباحته ، قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } سورة البقرة .
* ولم يستثن القرآن الكريم من عموم هذه الإجازة إلا ليالي الاعتكاف { ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد } .
( ج ) يوم الصيام :
ذكر القرآن الكريم بداية ونهاية بأسلوب دقيق ، لا يتحمل تأويلاً ، ولا يحتاج إلى تعقيب يقول تعالى في سورة البقرة