الدين والعمل
بقلم فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ
محمد علي عبد الرحيم
بالرئاسة العام لتعليم البنات بالرياض
عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن اللَّه يحب العبد المحترف )) . رواه البيهقي والطبراني .
هذا شأن المؤمن المحترف عند اللَّه تعالى ؛ يحبه جزاء ما قدم من عمل نافع ، فيبني لدينه صرحًا من المجد ، وينفع نفسه ، ويفيد أمته .
ومن المعلوم أن من أحبه اللَّه تعالى : هداه واجتباه ، وحفظه ووقاه ، وجعله في ولايته ، وأدخله في رحمته ، فيسعد في الدنيا والآخرة .
وإذا أحب اللَّه عبدًا ، فليس من المعقول أن يعذب المحب محبوبه . ولكن ما بال أقوام يحقرون الصناعة كما ينظرون إلى الصناع وأرباب الحرف بغير تقدير . مع أن الإسلام دعا إلى الاحتراف ، والاشتغال بالصناعات ، لتكتفي الأمة اكتفاء ذاتيًا بصناعات أبنائها . بل جعل الإسلام أطيب مال ، وأحل كسب : ما كان من عمل يد الإنسان . فقد قال صلى الله عليه وسلم : (( ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده ، وإن نبي اللَّه داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده )) .
ومما لا شك فيه أن الأمة التي فطنت إلى جلال الغاية من وراء الصناعة ، وأدركت سمو الهدف الذي ترمى إليه ، فبذلت كل جهد في هذا السبيل ، واستهسهلت كل صعب ، وأنشأت معاهد للصناعات قد نهضت من كبوتها ، وهبت من رقادها ، وتبوأت مقعدها بين الأمم .
أما الأمة التي لا تزال تأكل من حرث غيرها ، وتلبس من نتاج أخرى ، وتستورد معظم احتياجاتها ، فلم تشق طريقها إلى المجد ، وستظل عالة على غيرها من الأمم .
وإن الذي نلمسه الآن في الأمم الإسلامية ، من قعود عن المجد ، وتخلف عن ركب التقدم ، لم يكن سببه نقصًا في شريعتهم ، وإنما أساسه التفريط والإهمال .
فالإسلام لا يرضى بالدنية لأهله ، ويأبى أن يكونوا أذلة ، أو أن ينصفوا بالعجز والمهانة { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } .
كما نظم الإسلام حياتهم ، فجعل العمل للدين مقرونًا بالعمل للدنيا في غير ضراء مضرة { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ } .
ومن أجل ذلك كان الدين عملاً ونظامًا ، وعلمًا وصناعة ، وحياة عريضة تتميز بالنهوض والاعتلاء ، والعز والإباء ، ليوفر لأهله الرئاسة والتمكين في الأرض ، مع رغد العيش وهناءة الحال .
وإن أردت مزيدًا من البيان عن مسلك الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة ، لتمتلئ نفسك إعجابًا بقوة الإسلام . فإليك ما رواه النسائي وأبو داود والترمذي ، عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم . فسأله عطاء ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( أما في بيتك شيء ؟ )) قال : بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ( والحلس في اللغة يستعمل كساء وفراشًا ) ، وقعب نشرب فيه ( والقعب وعاء يشبه الماجور بريف مصر ) . فقال صلى الله عليه وسلم : (( ائتني بهما )) . فأخذهما رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده وقال : من يشتري مني هذين ؟ قال رجل : أنا آخذهما بدرهم . قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : من يزيد عن درهم مرتين أو ثلاثًا ؟ فقال رجل : أنا آخذهما بدرهمين . فأعطاهما الأنصاري وقال له : اشتر بأحدهما طعامًا فنبذه إلى أهلك ، واشتر بالآخر قدومًا فائتني به . فأتاه به . فشد رسول اللَّه صلى الله علية وسلم عودًا بيده ثم قال : اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يومًا . فجاء وقد أصاب عشرة دراهم . فاشترى ببعضهما طعامًا وببعضهما ثوبًا . فقال له رسول اللَّه صلى الله علية وسلم : هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة سواء في وجهك يوم القيامة )) .
فهذا الأسلوب النبوي ، يهدي للتي هي أقوم ، ويطهر المجتمع من البطالة ، ويعز أفراد الأمة بقوة الاحتراف ، لنعلم أن الدين يدعو إلى العمل ، ويحض على الصناعة ، وفي الحديث الشريف : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى اللَّه من المؤمن الضعيف )) .
فالمؤمن القوي في دينه ودنياه ، والذي يؤدي ما افترضه اللَّه عليه ، ولا يعتمد على غيره في إطعامه ، بل يحترف مهنة يأكل منها ، ويستفيد بها المجتمع : هو مؤمن قوي حقًا لأنه أخذ بمبدأ الإسلام فكان عاملاً في بناء المجتمع الصالح . وهو بذلك خير من المؤمن الذي انصرف إلى العبادة وعاش عالة على غيره ، فاستمرأ البطالة . وأصبح كلاً على الناس .
ومن هذا يتضح أن عزة المسلمين ، ونجاحهم في دنياهم يتوقف على الأخذ بمبدأ الإسلام الصحيح ، وحسن الاقتداء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سياسته الدينية والدنيوية .
ومما يجدر ذكره أن آدم أبا البشر كان فلاحًا يأكل من زراعته بعد الهبوط من الجنة ، كما أن هذه الحرفة انتقلت إلى أبنائه من بعد .
ثم إن الأنبياء والمرسلين والذين اتبعوهم بإحسان كالخلفاء الراشدين كانوا جميعًا محترفين ، فم