الدنيا في نظر القرآن
لفضيلة الأستاذ الشيخ / سيد سابق
مدير عام الدعوة بوزارة الأوقاف
اختلاف مفهوم الكمال والسعادة :
كل فرد من أفراد النوع الإنساني ينشد الكمال ويحرص على السعادة ، ويحاول الوصول إليها بكل سبيل ، ولكن فهمهم لها يختلف اختلافًا بينًا :
فمنهم من يرى أن السعادة المنشودة محصورة في التمتع باللذائذ المادية والنعم الظاهرة .
ومنهم من يرى حقارة هذه اللذائذ وأن السعادة هي الخروج عن دائرة الفطرة البشرية بتحريم الطيبات والانقطاع عن الدنيا .
وكل فريق من الفريقين مخطئ في فهمه ومجانب للحق والصواب . إذ أنه فهم لا ينسجم مع الحياة ولا يتسق مع ما خلق له الإنسان من تحقيق الخلافة في الأرض .
فالفريق الأول : الذي يؤثر الدنيا ويحرص على لذائذها يفسد خلقه وتضعف إرادته ويضطرب أمره ، ولهذا مقت الله هذا السلوك ووصفه بالكفر والضلال وشبهه بسلوك الأنعام التي لا تعقل معنى الوجود ولا تفهم قيمة الحياة .
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [ محمد : 12 ] .
وأما الفريق الآخر : فإنه فريق انعزالي يقف من الحياة والوجود موقفًا سلبيًا .
وسلوك هذا الفريق من شأنه أن ينقل قيادة الحياة إلى الأشرار فيوجهوها حسب أهوائهم وتبع رغباتهم ، وفي ذلك فساد الدين وضياع الدنيا .
والله يوجه الخطاب لهذا الصنف من الناس فيقول :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [ المائدة : 82 ] .
فكرة الإسلام عن مفهوم السعادة والكمال :
وإذا كان كل من الفريقين مخطئًا في فهمه للسعادة وفي نظرته إلى الكمال في نظر الإسلام فإنه يوضح صورتهما ويرسم معالمها .
فهو يرى أن الإنسان خليفة عن الله في الأرض ، وأن عليه القيام بواجبات هذه الخلافة وأنه جسد وروح ، وأن الجسد ليس عدوًا للروح ولا سجنًا لها ، وإنما هو أداة لها من أجل القيام بهذه الواجبات والتبعات ، وأن الدنيا دار عمل وميدان كفاح ، وليست دار تعذيب أو شقاء ، وأن على الإنسان أن يظهر مواهبه بالجد والسعي والكدح والكفاح في كل ميدان من ميادين النشاط الإنساني .
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ } [ الملك : 2 ] .
وإحسان العمل يتلخص في أن يحسن الإنسان صلته بالله عن طريق العقيدة والعبادة ، ويحسن صلته بالناس عن طريق الخلق والبر ليحقق بذلك كماله الروحي والإنساني ، يضاف إلى ذلك استخراج كنوز الأرض والانتفاع بالقوى المبثوثة في الكون وإصلاح النظام المعيشي لتحقيق الكمال المادي .
اهتمام الإسلام بضرورات الإنسان وحاجاته المادية :
لهذا نجد الإسلام عنى بكسب المال وتحصيله باعتباره عصب الحياة وقوامها ، وجعل ذلك فريضة من فرائضه .
” طلب الحلال فريضة على كل مسلم ” . وأوجب المحافظة عليها سواء كان قارًا أم ذهبًا أم فضة .
{ وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا } [ النساء : 5 ] .
واهتم بتوفير الحاجات الاستهلاكية من الغذاء والكساء والمسكن وما لا غنى للإنسان عنه ليكون على مستوى كريم من الحياة .
” من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً ، أو ليست له زوجة فليتزوج أو ليس له خادم فليتخذ خادمًا ، أو ليس له دابة فليتخذ دابة ” . رواه أحمد .
وسُئل رسول الله ( عن حد الكفاية للفرد فقال :
” ما سد جوعتك ، ووارى عورتك ؛ وإن كان لك بيت يظلك فذاك ، وإن كان لك دابة فبخ بخ ” .
وأمر بالأكل من الطيبات ونهى عن تحريمها واعتبر ذلك اعتداء .
{ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ . وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } [ المائدة : 87، 88 ] .
وامتن على الناس بالملابس : { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } ( وريشًا : ما يتجمل به من الثياب ) .
كما امتن عليهم بالسكن فقال :
{ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِالأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [ النحل : 80 ] .
{ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِّقَوْمٍ ي