الدعوة إلى التوحيد
بقلم سماحة الشيخ عبدالله بن حميد الرئيس العام للإشراف الديني بالمسجد الحرام
الحمد لله الذي أرسل رسوله مبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، دعا إلى الله على بصيرة وبحكمة ولين فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة وفتح الله به أعينًا عميًا وآذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا.. أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ومن الشرك إلى التوحيد ومن الحيرة والضلال إلى طريق الحق والهدى (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن يتبعهم بإحسان إلى يوم الدين).
أما بعد:
فلا شك أن الدعوة إلى (توحيد الله ، وعبادته ، وإرشاد الخلق إلى الصراط السوي): هي وظيفة (المرسلين)، وأتباعهم (الهداة المصلحين، والدعاة الناصحين)، الذين يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يحيون (بكتاب الله) الموتى ويبصرون (بنور الله) أهل العمى..
فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه؟ وكم من ضال تائه قد هدوه؟
فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم.. دعوا الناس إلى ما شاء الله أن يصلح به معاشهم ومعادهم، ودعوهم إلى ما فيه الخير والسعادة وحذروهم من السقوط في مهاوي الشرور والشقاء، وحرروا العقول من رق الأهواء والشهوات، وطهروا النفوس من أدران النقائص والرذائل.
ومعلوم أنه ما قام (دين من الأديان – ولا انتشر مذهب من المذاهب)، ولا ثبت مبدأ من المبادئ إلا بالدعوة، ولا هلكت أمة في الأرض إلا بعد أن أعرضت عن الدعوة أو قصر عقلاؤها في الأخذ على يد سفهائها، وما تداعت أركان ملة بعد قيامها، ولا درست رسوم طريقة بعد ارتفاع أعلامها إلا بترك الدعوة..
فإذا أهملت (الدعوة) فشت الضلالة وشاعت الجهالة وخربت البلاد وهلك العباد.
فنعوذ بالله أن يندرس من هذا القطب عمله وعلمه وأن ينمحي حقيقته ورسمه..
وقد علم بالاضطرار من دين (الرسول صلى الله عليه وسلم)، واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله – كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك معاذًا حين بعثه إلى (اليمن)..
فبذلك يصير الكافر مسلمًا والعدو وليًّا، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال..
وقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الله صابرًا محتسبًا كما أمره بقوله تعالى:
(فاصدعْ بما تُؤمرُ وأعرض عن المشركين) ، وقوله تعالى: (قل هذه سبيل أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
فكان يغشى الناس في مجالسهم في أيام المواسم ويتبعهم في أسواقهم فيتلو عليهم القرآن ويدعوهم إلى الله عز وجلّ ويقول: (من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالات ربي وله الجنة) فلا يجد أحدًا ينصره ولا يؤويه ولم يستجب له في أول الأمر إلا الواحد بعد الواحد من كل قبيلة وكان المستجيب له خائفًا من عشيرته وقبيلته، يؤذى غاية الأذى وينال منه وهو صابر على ذلك في الله عزَّ وجلَّ.. وأقام صلوات الله وسلامه عليه على هذا بضع عشرة سنة قال أبو قيس (صرمة ابن أبي أنس الأنصاري) رضي الله عنه:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة
ويعرض في أهل المواسم نفسه
فلما أتانا أظهر الله دينه
يذكر لو يلقى صديقًا مواتيًا
فلم ير من يؤوى ولم ير داعيًا
فأصبح مسرورًا بطيبة راضيًا
والقرآن الكريم ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم مبينًا حال الرسل المتقدمين مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين ليكون له بهم أسوة فتتسلى نفسه ويطيب قلبه وتهون عليه جميع المصاعب.
(وكلاًّ نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين).
وقال تعالى: (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذِّبُوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مُبَدِّلَ لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) . ومعلوم من سنة الله في خلقه: أن الحق يتصارع مع الباطل وأنه لا بد من أن يقض الله للحق أعوانًا يدافعون عنه ويكتب لهم الغلبة والفوز مهما كان للباطل من صولة.
كما أن من أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين: ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين كما قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون).
وذلك أن الحق إذا جحد وعُورض بالشبهات أقام الله تعالى له على يد من يشاء من عباده مما يحق به الحق ويبطل به الباطل من الآيات والبينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة.
فبالدعوة إلى الله يتبين الهدى من الضلال والصدق من المحال والغي من الرشاد والصلاح من الفساد والخطأ من السداد..
ذلك أن الدين الحق كلما نظر فيه الناظر، وناظر عنه المناظر ظهرت له البراهين وقوى به ا