الافتتاحية
الخوف الفطري والخوف التعبدي
بقلم الرئيس العام / محمد صفوت نور الدين
الحمد للَّه وحده ، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله وصحبه .. وبعد :
فإن الخوف عارض يصيب البشر وكثيرًا من المخلوقات ، لكنه داخل في التكليف للمكلَّفين ؛ لذا جاء الأمر به والنهي عنه . قال تعالى : { إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 175 ] .
والخوف : منه ما هو فطري ؛ كالخوف من اللص ، أو من المرض ، أو الخوف من سلطان غاشم ، أو حاكم ظالم ، أو الخوف من الثعبان والسبع والكلب العقور ، أو الخوف من غضب الوالدين ، أو من ضياع المال . وبالجملة فالخوف الفطري خوف سببي ؛ أي تخاف الثعبان أن يلدغك ، أو اللص أن يسرقك ، أو السلطان الغاشم أن يظلمك ، أو من الوالد إذا غضب أن تُحرم حنانه أو تنال عقابه ، ومنه خوفك على ولدك أو مريضك ، وغير ذلك .
ومنه الخوف التعبدي ؛ وهو الخوف من اللَّه عند أهل التوحيد ، ومنه الخوف من الأصنام والمقبورين ، وكل ما عُبد من دون اللَّه تعالى .
وسمة الخوف التعبدي أنه خوف سر ، وأنه يجتمع مع الحب في آنٍ واحد ، بينما الخوف الفطري خوف سببي لا يجتمع مع الحب ، بل غالبـًا ما يجتمع مع البغض ، فإن من خاف من اللص أو الثعبان أو الكلب أو السلطان الغاشم ، فإنه يكرهه ولا يحبه ، حتى الذي يخاف من غضب والديه لا يحب لهما ذلك الغضب ويجتنب أن يغضبهما ، أما المشرك فإنه يدعو معبوده خوفـًا وطمعـًا ، وينذر إليه محبة له وخوفـًا من شره .
والمشركون يزعمون أن لأوليائهم سرًّا يخيفون الناس من هذا السر ، كما يخاف المؤمنون من اللَّه سبحانه : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 81 ] .
الخوف التعبدي لا يجوز أن يصرف منه شيء لغير اللَّه سبحانه ، واللَّه سبحانه يظهر للناس من آياته وآثار قدرته ليخافوه ، فيدفعهم ذلك الخوف لاجتناب المعاصي ولزوم الطاعات !!
الخوف الفطري خوفٌ سببيٌ لا يجتمع مع الحب ، بل غالبـًا ما يجتمع مع البغض ، والمشرك يدعو معبوده خوفـًا وطمعـًا ، وينذر إليه محبة له وخوفـًا من شره !!
لذا كان الخوف من المقبور شركـًا ، والخوف من اللَّه توحيدًا ، والخوف الفطري لا يدخل فيهما ، فمن الخوف الفطري ما كان من الأنبياء ، حيث قال يعقوب u : { إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [ يوسف : 13 ] ، وقال زكريا u : { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا } [ مريم : 5 ] ، وقال سبحانه عن موسى : { فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ } [ القصص : 18 ] ، وقال : { فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 21 ] ، فخوف يعقوب u على ولده ، وخوف زكريا u على أهله ، وخوف موسى u على نفسه ، كل ذلك من الخوف الفطري ، فلم يقل لهم رب العالمين هذا شرك .
إلا أن الخوف الفطري يروضه الإيمان ، فهذا نبي اللَّه وكليمه موسى u يُولد في خيفة ، تخاف أمه عليه ، ويُربى في خيفة ، ويخرج من مصر خائفـًا يترقب ، فلما عاد ورأى النار فجاءها ، فأمره ربه فألقى عصاه ، فانقلبت حية ، فخاف وولى مدبرًا ولم يعقب حتى طمأنه اللَّه سبحانه ، فكان هذا أول تجارب الإيمان التي روضت الخوف عنده ، فلما أمره ربه أن يذهب إلى فرعون ، عبر عما كان في نفسه بقوله : { رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى @ قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [ طه : 44، 45 ] ، وقال سبحانه : { رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ @ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ @ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ @ قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُم مُّسْتَمِعُونَ } [ الشعراء : 12- 15 ] ، وأوصاه رب العزة سبحانه : { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ } [ القصص : 32 ] .
يقول ابن كثير : أمره u إذا خاف من شيء أن يضمم إليه جناحه من الرهب ، وهو يده ، فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف .
فلما ذهب إلى فرعون فأمره ونهاه ، وفعل ما أمره ربه زال عنه ذلك الخوف . وذكر ابن كثير عن مجاهد قال : كان موسى u قد ملئ قلبه رعبـًا من فرعون ، فكان إذا رآه قال : اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره ، فنزع اللَّه ما كان في قلب موسى u ، وجعله في قلب فرع


