الحكم بما أنزل الله ضرورة حياة
بقلم علي محمد قريبه
-5-
(دفع المزاعم حول فكرة الدين والدولة)
يزعم بعض أبناء المسلمين ممن يسمون أنفسهم بالمجددين أن الإسلام دين وليس دولة وهم بزعمهم هذا إنما يقلدون بعض المستشرقين الذين يكيدون للإسلام والمسلمين.. ولقد كفاني مؤنة الرد على هؤلاء، المنصفون من المستشرقين من أمثال الدكتور (فتزجرالد) الذي يقول ما نصه «ليس الإسلام ديناً فحسب ولكنه نظام سياسي أيضاً، وعلى الرغم من أنه ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بُنيّ على أساس أن الجانبين متلازمان لا يمكن أن ينفصل أحدهما عن الآخر».
ومن أمثال الأستاذ (نللينو) الذي يقول (لقد أسس محمد في وقت واحد ديناً ودولة وكانت حدودهما متطابقة طول حياته). وكذلك الدكتور (شاخت) الذي يقول (الإسلام يعني أكثر من دين. إنه يمثل أيضاً نظريات قانونية وسياسية، وجملة القول أنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معاً) ويقول الأستاذ (جب):- (عندئذٍ صار واضحاً أن الإسلام لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل له أسلوبه المعين في الحكم وله قوانينه وأنظمته الخاصة به).
أفبعد هذه الأقوال الواضحة لهؤلاء المستشرقين المنصفين زيادة لمستزيد يقتنع بها بعض كتابنا الذين تبهرهم أقوال الغرب والغربيين فتنطلق ألسنتهم بآراء تنتقص من إسلامهم وأسلافهم؟ وشجعتهم على ذلك صحافة غير ملتزمة على نحو ما رأينا على صفحات جريدة الأخبار تحت عنوان (الرأي للشعب) منذ شهور قليلة ماضية – حول نظام الحكم في الإسلام. وكان الأولى بهؤلاء الكتاب المسلمين وبالمسئولين عن جريدة الأخبار أن يكتفوا بما ورد في القرآن والسنة المطهرة حول هذا الموضوع.
وإتماماً للفائدة أحب أن يعلم القراء الكرام أن أقوال هؤلاء المستشرقين المنصفين تؤيدها وقائع التاريخ. فلا يستطيع أحد أن ينكر أنه بعد ظهور الدعوة الإسلامية تكون مجتمع جديد له نظام واحد ويهدف إلى غاية واحدة. وبين أفراده وشائج قوية من الجنس واللغة والدين والشعور العام بالتضامن. ومثل هذا المجتمع هو الذي يقال عنه أنه دولة. وحتى بعد أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وأصبح من مواطني هذه الدولة العربي والعجمي، فإن الجميع كانوا يعتزون باللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم الذي هو دستور المجتمع الإسلامي،وسارع غير العرب لتعلم هذه اللغة والتأليف بها حتى بز كثير منهم أبناء العربية فيها من أمثال سيبويه الذي ألف في النحو العربي كتابه الذي يعتبر من أهم المراجع في هذا الفن. من أمثال أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب الذي عقدت له الإمامة في الفقه. وغيرهما كثير وأصبح دين الإسلام هو الوطن والجنسية التي تجتمع عليها النفوس المختلفة، والأهواء المتفرقة، فكل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله هو جزء من هذا الوطن الكبير. ويقول شاعرهم:
أبي الإسلام لا أب لي سواه… إذا افتخروا بقيس أو تميم
والأرض كلها بعد ذلك وطن واحد إن عرفت ربها واتصلت به، وسارت على منهاجه الشامل الذي جاء به الإسلام في القرآن الكريم.
(الدين والسياسة)
السياسة لغة مشتقة من مادة ساس يسوس. يقال ساس فلان الأمر سياسة، إذ أقام عليه بما يصلحه، ويقال هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته، وفي الحديث الشريف (كان بنو إسرائيل يسوسهم أنبياؤهم) أي يتولون أمورهم.
والسياسة في اصطلاح القانونيين تشتمل على معنيين أحدهما وصفي أو تنظيمي يتعلق بتنظيم السلطة وتحديد أشكال ممارستها. وثانيهما ديناميكي (عملي) يتعلق بنشاط السلطة وكل من المعنيين يدل على الاشتغال بأمور الحكم ووسائل ممارسة السلطة وأهدافها وطبيعتها ومركز الفرد فيها وضماناته قبلها وكيفية تفاعل أفراد المجتمع وتضامنهم للنهوض به في شتى المجالات.
وليس كالإسلام دين أو نظام يمنح حق ممارسة السياسة بهذا المعنى لكل فرد من أفراد المجتمع المسلم، ما دام عاقلاً رشيداً حتى إنه ليقرر أن اختيار الخليفة نفسه موكول إلى المسلمين. كما يوجب على السلطة التنفيذية ألا تبرم أمراً ذا بال من أمور الدولة إلا إذا رجعت فيه للمسلمين. ولم يكتف الإسلام بذلك، وإنما جعل من حق الرعية أن تعترض على تصرف رئيس الدولة بل أن تقوم اعوجاجه، فهذا هو الخليفة الأول أبو بكر الصديق يقول في أول خطبة له بعد مبايعته (فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني) وذلك الخليفة الثاني عمر بن الخطاب يقول في خطبة له بعد مبايعته (ألا إن رأيتم في اعوجاجا فقوموني) فينبري له فرد من الرعية ليقول له (إن رأينا فيك اعوجاجا قومناك بالسيف) فما يكون من عمر إلا أن يحمد الله أن بلغ المسلمون هذا الحد من اليقظة والوعي.
ولم يكتف الإسلام بذلك وإنما سمح للأفرا