الحكم بما أنزل الله ضرورة حياة
بقلم علي محمد قريبه
-2-
نظم الحكم عند ابن خلدون
يرى ابن خلدون في مقدمته أن نظم الحكم ثلاثة أنواع: الأول – الملك الطبيعي: ويعرفه بأنه حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة. ثم يعلق عليه بأنه نظام استبدادي فردي أي أنه بلغة العصر غير دستوري. والثاني – الملك السياسي: ويعرفه بأنه حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار. ثم يعلق عليه بأنه وإن كان يحقق العدالة الاجتماعية إلى حد ما للمحكومين في هذه الحياة إلا أنه يغفل الحياة الروحية. ثم يخلص من ذلك إلى ضرورة تواجد النوع الثالث من نظم الحكم الذي يعرفه بأنه حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها لأن أحوال الدنيا كلها ترجع عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة. ويتبين من هذا التعريف أن المقصود به هو الحكم الإسلامي.
اجتماع السلطة الدينية والسلطة السياسية
في نظام الحكم الإسلامي
ينفرد الإسلام من بين الرسالات السماوية الأخرى بأن دعوته عامة للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة. وصدق الله العظيم ((قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا))[الأعراف: 158]،
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ)) [النساء:105 ]،((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا )) [المائدة:3]، ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )) [البقرة: 143]، ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [الفتح: 28]، ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء: 107]، ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْءَانُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)) [الأنعام: 19].
ومعنى ذلك أن مهمة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه الدعوة الإلهية إلى الناس جميعاً وأن يقوم بتنفيذها على وجه عملي، وأن يدافع عنها وأن يسوس الدنيا بها. ولهذا شرع الله الجهاد على الأمة الإسلامية وجعله ماضياً إلى يوم القيامة.
وأما ما سوى الإسلام من الرسالات الأخرى، فإن الدعوة فيها غير عامة وليس الجهاد فيها مشروعاً إلا في المدافعة فقط. بل إن بعضها يدين بالنص القائل (دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله) والنص القائل (من لطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) ولهذا فإن القائمين على أمر هذه الرسالات لا تعنيهم السلطة السياسية لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم الأخرى، وإنما هم مطالبون بإقامة دينهم في خاصة أنفسهم فقط.
وهكذا رأينا أن مهمة الدعوة الإسلامية شرعية، تبليغية، تطبيقية، وأن السلطة قد اجتمعت فيها الناحية السياسية والناحية الدينية دون سائر الرسالات وصدق الله العظيم ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ لْمُشْرِكُونَ)) [الصف:9].
فلما لحق صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قام الخلفاء من بعده مقامه في حفظ الدين وتبليغه للناس جميعاً، وفي سياسة الدنيا بهذا الدين وصدق الله العظيم ((هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)) [الحج:78].
ومن هنا كان تنصيب الخليفة واجباً في الإسلام إذا تركه المسلمون أثموا كلهم على رأي جمهور العلماء لتحقيق هذه الغاية التي ناطها الله بالأمة الإسلامية في هذه الحياة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ((من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية) وكانت نصيحته لحذيفة بن اليمان أن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم حين سأله حذيفة ماذا يصنع إذا أدركته الفتنة؟
هذا وقد تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على امتناع خلو الوقت من إمام حتى قال أبو بكر رضى الله عنه في خطبته المشهورة حين تُوفيَّ الرسول ? (ألا إن محمداً قد مات، ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به) فبادر الكل إلى قبوله ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر، حتى يتسنى الحفاظ على كل من الدين والنفس والنسل والعقل والمال والعرض باعتبارها جماع كل ضروريات الدنيا والآخرة، ويترتب على حفظها استقرار حياة البشر في الدنيا والفوز برضاء الله تعالى في الآخرة. وهذه غاية الغايات.
وهنا ينبغي أن نفرق بين الخلافة الشرعية وخلافة القوة غير المعترف بها. فلا نلقي باللائمة على كلتيهما كما وقع لبعض الكتاب المحدثين أمثال الأستاذ على عبد الرازق وزير الأوقاف الأسبق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي أراد به أن يه