الحكم البليغة
لسماحة الشيخ
عبد اللَّه بن حميد
رئيس الإشراف الديني بالمملكة العربية السعودية
يقول ابن تيمية رحمه اللَّه : كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عادات الجاهلية . بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : يا للمهاجرين ، وقال الأنصاري : يا للأنصار . قال النبي ( : ” أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ” !! وغضب لذلك غضبًا شديدًا . اهـ .
وقوله ( : ” ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ” . صريح في إبطال العصبية الجنسية وإبطال التفاضل بالألوان ، فالأسود والأحمر والعربي والعجمي كلهم بنو آدم خلقهم اللَّه من ذكر وأنثى ، كما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } . فدلت الآية الكريمة على أن الجميع من أصل واحد ، وأن الله جعلهم شعوبًا وقبائل للتعارف فيما بينهم . أما المنزلة عند الله فلا تنال إلا بالتقوى ، جاء عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه لما كان يوم فتح مكة أمر النبي ( بلالاً حتى علا على ظهر الكعبة فأذن ، فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص : الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم . قال الحارث بن هشام : ما وجد محمد هذا الغراب الأسود مؤذنًا ؟ وقال سهيل بن عمرو إن يرد الله شيئًا يغيره . وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئًا أخاف أن يخبر به رب السماء .
فأتى جبريل النبي ( وأخبره بما قالوا فدعاهم ، وسألهم عما قالوا ، فأقروا ، فأنزل الله هذه الآية ، زجرهم عن التفاخر بالأنساب ، والتكاثر بالأموال ، والازدراء بالفقراء ، فإن المدار على التقوى ، أي الجميع من آدم وحواء إنما الفضل بالتقوى .
وقد وجد من الأعاجم من فيه خير وصلاح ونالوا من العلم والفضل والتقى ما لم ينله غيرهم كسلمان الفارسي وبلال الحبشي وصهيب الرومي .
كما وجد من التابعين فمن بعدهم ممن له سبق فضل وعلم وتقى وقيام بنصر هذا الدين . ففي صحيح مسلم عن يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ( : لو كان الدين عند الثريا لذهب به رجال من فارس أو قال من أبناء فارس حتى يتناوله . وفي رواية : لو كان العلم عند الثريا لتناوله رجال من أبناء فارس .
وروى الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( في قوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } ، أنهم من أبناء فارس إلى غير ذلك من آثار رويت في فضل رجال من أبناء فارس ومصداق ذلك ما وجد من التابعين ومن بعدهم من أبناء فارس الأحرار والموالي مثل الحسن وابن سيرين وعكرمة مولى ابن عباس وغيرهم إلى من وجد بعد ذلك فيهم من المبرزين في الإيمان والدين والعلم حتى صار هؤلاء المبرزون في ذلك أفضل من أكثر العرب وكذلك في سائر أصناف العجم من الحبشة والروم والترك وغيرهم سابقون في الإيمان والدين لا يحصون كثرة على ما هو معروف عند العلماء إذ الفضل الحقيقي هو اتباع ما بعث الله به محمدًا ( من الإيمان والعلم باطنًا وظاهرًا فكل من كان فيه أمكن كان أفضل والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل الإسلام والإيمان والبر والتقوى والعلم والعمل الصالح والإحسان ونحو ذلك لا بمجرد كون الإنسان عربيًّا أو عجميًا أو أسود أو أبيض ولا بكونه بدويًا أو قرويًا .
نقل ابن حجر في تهذيب التهذيب عن الزهري أنه قال : قدمت على عبد الملك ابن مروان فقال : من أين قدمت يا زهري ؟ قال : قلت : من مكة . قال : ومن خلفت يسودها وأهلها ؟ قلت : عطاء بن أبي رباح . قال : فمن العرب أم من الموالي ؟ قلت : من الموالي . قال : فيم سادهم ؟ قال : قلت : بالديانة والرواية . قال : إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا . قال : فمن يسود أهل اليمن ؟ قلت طاوس بن كيسان . قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت من الموالي . قال فيم سادهم ؟ قلت بما ساد به عطاء . قال إنه لينبغي ذلك . قال فمن يسود أهل مصر ؟ قلت يزيد بن حبيب . قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت من الموالي قال فمن يسود أهل الشام ؟ قلت مكحول قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت من الموالي ( عبد نوبي أعتقته امرأة من هذيل ) قال فمن يسود أهل الجزيرة ؟ قلت ميمون بن مهران قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت من الموالي قال فمن يسود أهل خراسان ؟ قال قلت الضحاك بن مزاحم قال فمن العرب أم من الموالي ؟ قال قلت من الموالي قال فمن يسود أهل البصرة ؟ قال قلت الحسن البصري قال فمن العرب أم من الموالي قال قلت من الموالي قال ويلك ومن يسود أهل الكوفة ؟ قال قلت إبراهيم النخعي قال فمن العرب أم من الموالي قال قلت من العرب قال ويلك يا زهري فرجت عني والله لتسودن الموالى على العرب في هذا البلد حتى يخطب لها على المنابر