حول الجزاء الأخروي
بقلم فضيلة الشيخ محمد الغزالي
ألقى أحد المتحدثين عن الإسلام كلمة بالتليفزيون العربي تعرض فيها للثواب والعقاب الأخرويين، وكاد يقول إنهما روحانيان، وأخذ يلوي الآيات عن وجهتها وينصرف في تأويلها بما لا يعرفه فقيه مسلم، بل إنه أرسل نكتة عن الفهم المعروف للنعيم في دار الخلد فقال: إن الجنة ليست سوق خضار.
ونحن مضطرون لإيضاح الأمر كله بما يتفق ومعالم الدين حتى نقر الحق في نصابه، وندفع الشبهات التي تتشبث بعقول بعض الناس.
هل خلق الإنسان من روح وجسد شيء يعاب؟ كذلك يرى بعض الناس .. بل كذلك قال أعداء الأنبياء لهم وهم يرفضون رسالاتهم، وينكرون حديثهم عن الله، مفترضين أن يكون الرسول ملكًا: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرًا).
وكما استنكروا أن يكون المرسلون بشرًا يأكلون، استنكروا عليهم الزواج، والنسل ظانين أن الرغبة الجنسية تشين الإنسان الكبير وعليه إذا أراد التكمل أن يكبتها.
وقد رد القرآن الكريم هذه المزاعم وبيّن جلَّ شأنه أن المصطفين الأخيار من عباده كانوا رجالاً ناضجي الغرائز (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجًا وذرية)..
ومع ذلك فإن بقايا من منطق الجاهلية القديمة لا تزال عالقة بأذهان الكثيرين ممن يحسبون السمو البشري لا يتم إلا بإعلان حرب مجنونة على البدن توهي قواه وتدوخ رغائبه.
بل سرى ذلك الفكر إلى بعض المذاهب الدينية، وانبنى عليها أن التقوى في هذه الحياة تعني الرهبانية، وأن السمو في الحياة الآخرة لا يتصور مع وجود هذا الجسد اللعين، وعليه بعد ذلك فلابد أن يكون النعيم الموعود روحانيًا محضًا وكذلك العذاب المرصد للأشقياء.
ولما كان الإسلام دين الفطرة السليمة، ولما كان لبابه احترام الحقيقة المجردة، فإنه رفض كل هاتيك المقدمات والنتائج، وأسس تكاليفه وأجزيته الدينية والأخروية على اعتبار الإنسان كائنًا متميزًا يجمع بين جملة من المواهب والخصال المتلاقية في شخصيته، بها جميعًا يسمو أو يهبط وبها جميعًا يثاب أو يعاقب.
أو كما يقول الأستاذ العقاد: ليس ما يدين به المسلم أن يرتد النوع الإنساني إلى ما دون طبيعته، ولكن مما يؤمن به أن ارتفاع الإنسان وهبوطه منوطان بالتكليف، وقوامه الحرية والتبعة، فهو بأمانة التكليف قابل للصعود إلى قمة الخليقة، وهو بالتكليف قابل للهبوط إلى أسفل سافلين، وهذه الأمانة هي التي رفعته مقامًا فوق الملائكة، أو هبطت به إلى زمرة الشياطين.
ليس الهبوط أن يشتهي الإنسان طعامًا أو امرأة. إنما الهبوط أن يأكل المرء من سحتٍ أو يتصل بمن لا تحل له.
فإذا طعم من حلال أو اتصل بأنثى لتكون زوجة يسكن إليها وينعم بها ويمتد وجوده معها فلا شيء في ذلك أبدًا.
لقد أخطأ كثير من المنتسبين إلى الدين في احتقارهم للبدن، وفهمهم أن التسامي لا يحصل إلا بسحقه، وفهمهم بعد ذلك أن الحياة الأخروية لا وجود للبدن فيها، وأن النعيم أو الجحيم معنويان وحسب !
وقد سرى هذا الخطأ – كلا أو جزءا- إلى متصوفة المسلمين فاعتنقوه – وحسبوه دلالة ارتقاء وتجرد، فظلموا بهذا المسلك دينهم وأوقعوا خللاً شينًا في موازين الجزاء كما أقامها الكتاب العزيز.. وقلدوا أتباع الديانات المنحرفة في الجور على الطبيعة البشرية وبذلك فسحوا للمذاهب المادية طريق التقدم والسيادة.
بل بلغت المجازفة بهم أن حقّروا عبادة الرغبة والرهبة، وأشاعوا أن من الهبوط أن تطيع الله طلبًا لجنته، أو تدع عصيانه خوفًا من ناره حتى توهم الناس أن الأمل في الجنة والخوف من النار ليس شأن العباد الصالحين.
وهذا الضرب من التفكير لا يمكن وصفه بأنه تفكير إسلامي، إنه ضرب من الشرود والغرور تبدو تفاهته عندما يحاكم إلى العقل والنقل على سواء.
ولنبدأ بالنقل .. يصف لنا القرآن الكريم مشاهد الجزاء فيذكر لنا أن رجلاً مؤمنًا بحث عن صاحب له كان ظاهر الإلحاد والفسوق، فوجده قد استقر في سواء الجحيم فحمد الله أن لم يتأثر به وقال: (تالله إن كدت لتردين ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون).
النجاة من النار أمل ضخم لمثله يعمل العاملون، فكيف يجيء أحد من الناس، رجلاً أو امرأة ليقول: بل هو أمل تافه؟!! ويقول الله جلّ جلاله: (إن كتاب الأبرار لفي عليين وما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيقٍ مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون).
في الرحيق المختوم يسقاه قوم تعرف في وجوههم نضرة النعيم، في هذا الجزاء الجزيل ينبغي أن يتنافس المتنافسون.
فكيف يجيء إنسان رجلاً كان أو امرأة ليقول: لا أعبد طلبًا لشيء من ذلك؟!!
إن هؤلاء الناس يكذبون على طبائعهم الإنسانية كما يكذبون على دين الله، ثم هم يسيئون تصو