من روائع الماضي
التقوى
بقلم الشيخ / أبي الوفاء محمد درويش (رحمه الله)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، ثم أمَّا بعد :
فمن عجب أني أفكر في التقوى حين تفكر الدهماء في الحروب وويلاتها وكوارثها وفواجعها ، وما تدمر من مدائن ، وما تجتاح من أقاليم ، وما تفني من أموال ، وما تزهق من أرواح ، وما تهريق من دماء ، وما تكبد من ضحايا ، وما تقلق من ضمائر ، وما ترهق من أعصاب ، وما تفزع من قلوب ، وما تروع من نفوس .
ومن عجب أني أفكر في التقوى حين يفكر الناس في دول دالت ، وعروش ثلت ، وتيجان طارت عن رءوس أصحابها ، وصوالجه طاح بها صولجان القدر ، ودنيا غلت فيها مراجل المطامع فاضطربت كما يضطرب الماء في مهوى سحيق .
ومن عجب أني أفكر في التقوى حين وقفت كل أمة تفكر في مصيرها ، وترتقب ما أُخفي لها في ضمير الغيب ، وما سطر في صحائف القدر ، وهي لا تدري : أتكتب لها الحياة ويقسم لها البقاء ، أم تطوى صحيفتها وتمحى سطورها من سجل الوجود ؟
ومن عجب أني أفكر في التقوى حين وقف الناس جميعًا يفكرون كيف يتقون كوارث الحرب وكيف ينجون من شرها وبلائها : يعدون الكمائم للغازات ، والمخابئ للغارات ، والمدافع للطائرات ، ويستعدون لاتقاء الموت النازل من السماء ، أو السابح في الماء أو الطائر في الهواء ، أو الماخر أجواز الدأماء ، أو المختال في أكناف البيداء .
ومن عجب أني أفكر في التقوى ، والشعوب جميعًا تفكر في البندقيات والمدافع والرشاشات والدبابات والمطاود والطائرات والحصون والمعاقل والمصانع والطرادات والناسفات والنقالات والمدمرات والغواصات ، وما لا يعلم إلا الله من وسائل التدمير والتخريب ، وعدد العدوان والطغيان .
وما يدريك لعل الحرب هي التي أثارت في نفسي حديث التقوى ، وأغرت قلمي بالكتابة فيه .
وما يدريك لعل ما أحسسته ورأيته من تقوى الحرب في كل مكان هو الذي أهاب بي ودفعني إلى أن أكتب في تقوى الله .
الله حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، والنار حق ، ومقامعها حق ، وسلاسلها وأغلالها حق ، وزقومها وغسلينها حق ، وعذابها الذي يتضاءل دونه كل ما سمعت به من أهوال الحرب حق .
ووقوع الحرب في ديارنا لا يزال في مكان الشك من نفوسنا ، وهبه ارتقى إلى موضع الظن ، بل هبه تسامي إلى درجة اليقين فكان حقًّا ، فما بالنا نؤثر حقًّا على حق ؟ ما بالنا نؤثر حقًّا - مهما تعظم كوارثه ، وتشتد البلوى فيه فإن بقاءها قليل ، ومصيرها إلى تحول وزوال ، على حق إذا نزل بنا فلا مرد له وما لنا منه من محيص ؟
أنتقي حرب الناس ولا نتقي حرب الله ، ونخشى الإنسان والله أحق أن نخشاه ؟
ماذا كلفت الأمم تقوى الحرب ؟
كم أعدوا من كمائم لاتقاء سموم الغازات ، وكم هيئوا من مخابئ لاتقاء شرور الغارات ، وكم اعتصروا دماء الشعوب ، وحرموا على الناس ثمرات أعمالهم ، حتى إذا ظفروا بهذا الذهب المعتصر من قلوب العمال وأكبادهم أحالوه حديدًا ونارًا لإزهاق أرواح الأبرياء ، أو لصد عدوان الأشرار الأشقياء .
كم أنفقوا من أموال لا يحصيها العد ، وكم سهدوا الجفون وأرقوا العيون ، وكم حرموا من متاع ، وكم خاضوا في أعماق الظلمات .
أما الأمم الضعيفة التي لا قبل لها بمقاومة العدو القوي ، فقد ألقت بأيديها ، واستسلمت واستكانت وآمنت بأن الصلح خير .
أعلن الله الحرب على تاركي الصلاة ، ومانعي الزكاة ، والمفطرين في شهر رمضان ، والقاعدين عن الحج مع استطاعتهم السبيل إليه ، وهم ضعاف لا حول لهم ولا قوة ، ولا طاقة لهم بحرب الله تعالى ، فهل فكروا في صلح يكفون به عن أنفسهم لهيب النار ، ويسلمون به من غضب الجبار وانتقام القهار ؟
لو لم يطالبنا الله بالتقوى لطالبنا بها العقل ، ولو لم ينبهنا الله إليها لدعانا إليها الحزم والنظر في عواقب الأمور ، ولكن الله تعالى دعا إليها في كثير من آيات كتابه الكريم ، قال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) [ البقرة : 196] .
وقال تعالى : ( وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ ) [ البقرة : 197] .
وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم ) [البقرة : 231] .
وقال تعالى : ( وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) [ البقرة :233] .
وقال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) [ البقرة : 278 ] .
وقال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) [ آل عمران : 102] .
وقال تعالى : ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ