مجلة التوحيد
السنة السابعة
العدد 12
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
باب التفسير
يقدمه: عنتر أحمد حشاد
2- سوة البقرة
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ 80 بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 81 وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
كان اليهود يلقون كلماتهم المسمومة على مسامع الناس ليشككوهم في صدق الدعوة إلى الإسلام، ويصدوهم عن الاستجابة لها، والإيمان بها، شأن المبطلين في محاربة الحق في كل عصر، وفي كل مكان، كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} ( من الآية 18 من سورة المائدة ) و {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} وكانوا يقولون: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ( من الآية 88 من سورة البقرة، ومن الآية 155 من سورة النساء ) مقفلة، لا تدرك شيئا مما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تتجه إليه، {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا} ( من الآية 111 من سورة البقرة ) فيرد اللَّه عليهم بأن الثواب أو العقاب، وتأقيت العذاب أو خلوده لا يعرف إلآ من جهته سبحانه، فهل أنزل عليكم فيه وحيا، وأخذتم به عليه عهدا، {أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}؟.
وليست المسألة عند اللَّه مسألة محاباة بحب أو بنوة ( سبحان اللَّه أن يكون له ولد )، وإنما هي ذات مبدأ عام، وحكم عام، إن تحقق المبدأ تحقق الحكم، وبنو إسرائيل وغيرهم في المبدأ والحكم سواء: {مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 80 وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
هذا هو المبدأ والحكم، وسنرى- في المقال التالي إن شاء اللَّه- تطبيقه على حالة اليهود، كما بينته الآيات الكريمة الآتية: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}… {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ}..
غرور اليهود، وزعمهم الفاسد:
{وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ ( وقالوا لن تصيبنا نار الآخرة، ونذوق حرها، فالمس: اتصال أحد الشيئين بالآخر على وجه الإحساس والإصابة ) إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً ( أيامًا معدودة: أيامًا قليلة، وجمع غير العاقل، مثل: ” الأيام” يجوز معاملته معاملة المفرد المؤنث، فيقال: ” أيام معدودة، وهذه الأيام” ، ويجوز معاملته معاملة الجمع، فيقال: ” أيام معدودات”، كما في قوله تعالى {أَيَّامًا مَّعْدُودَات} من الآية 184 من سورة البقرة، ومن آية 24 من سورة آل عمران، ويقال: ” أولئك الأيام” كما جاء في قول الشاعر
ذم المنازل بعد منزلة اللوي والعيش بعد أولئك الأيام
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ اللَّهِ عَهْدًا ( أتخذتم عند اللَّه عهدا: جملة استفهامية للإنكار والتوبيخ، دخلت همزة الاستفهام، وهي همزة قطع مفتوحة على: ” اتخذ” المبدوء بهمزة الوصل المكسورة، فحذفت همزة الوصل، كما في قوله تعالى: {أطَّلَعَ الْغَيْبَ}؟ من آية 78 من سورة مريم، وذلك بخلاف المبدوء بهمزة الوصل المفتوحة، مثل: لفظ الجلالة ( اللَّه ) و ( الآن ) فإنها لا تحذف، وإنما تقلب ألفا للمد {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ}؟ من آية 59 من سورة يونس، و {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}؟ من آية 91 من سورة يونس أيضا ) قل أتخذتم عند الله عهدًا ( عهدا: ميثاقا بعدم عذابكم وخلودكم في النار ) فَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}
رأينا- في الآيات السابقة- تقسيم اليهود إلى فريقين: علماء يحرفون كلام اللَّه، ويتواصون بكتمان ما عندهم من العلم، لئلا يكون حجة عليهم بحسب زعمهم، وجهلاء أميين هم أسارى الأماني والأوهام، وضحايا التضليل والتلبيس الذي يأتيه علماؤهم.
وهذه الآيات تثني ببيان منشأ اجترائهم على كل موبقة، ألا وهو غرورهم، بزعمهم أن النار لن تمسهم إلا أيامًا معدودة.
كانوا يؤمنون بأنهم لن يدخلوا النار رغم فساد عقائدهم، وسوء أعمالهم، لا لشيء سوى أنهم ” يهود” وكانوا يخدعون أنفسهم بأنهم لن يعاقبوا يوم القيامة، وإن عوقبوا فلأيام قليلة، ثم يبعث اللَّه بهم بعدها إلى الجنة.
ولقد دعاهم الغرور أيضا إلى إعراضهم عن تحكيم كتاب اللَّه ( التوراة ) حينما دعاهم رسول اللَّه- صلى الله عليه وسلم- إليه، كما جاء