مجلة التوحيد
المجلد الخامس
العدد 11
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
باب التفسير
يقدمه: عنتر أحمد حشاد
2- سورة البقرة
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}
بعد أن بيَّنا في الآيات السابقة أوصاف وجزاء كل فرقة من الفرق الثلاث التي افترق إليها الناس بإزاء القرآن وهداه: المتقين، والكافرين، والمنافقين- أمر جل ثناؤه الناس بأن يكونوا من الفريق الأول: فريق المتقين، فكأنه- سبحانه- قال: يا أيها الناس لقد رأيتم صفات المنافقين وجزاءهم، وصفات الكافرين وجزاءهم، وصفات المنافقين المتقين، فريق المهتدين المفلحين.
فكلمة ( الناس ) عامة تشمل المكلفين جميعًا، من آمن منهم، ومن لم يؤمن، من الموجودين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن سيوجد بعدهم إلى يوم القيامة، لعموم الرسالة المحمدية.
وأمر المؤمنين بالعبادة أمر لهم بالمداومة عليها.
والعبادة المطلوبة هي الطاعة المبنية على حب المعبود، لا يشاركه فيها غيره، لأنه المستحق لها وحده، لانفراده بالخلق والربوبية وكامل الإنعام، مع القدرة الشاملة وعظيم السلطان.
وليست العبادة مقصورة على الصلاة والصوم والزكاة ونحوها، بل تشمل كل عمل يعمل لنفع الناس والحيوانات إذا أريد به وجه اللَّه. فالعامل الذي يخلص في عمله لأبناء وطنه، ويرجو به رضا اللَّه يكون عابدًا وعمله عبادة. وإطعام الحيوانات، والعناية بها امتثالاً لأمر اللَّه عبادة.
أمر- سبحانه- الناس أن يعبدوه، ووصف نفسه بأوصاف ثلاثة، كل وصف منها يدعو الناس إلى أن يعبدوه، أي يخضعوا له خضوع المذعنين بألوهيته، وكمال قدرته.
* * *
الوصف الأول: أنه ربهم، أي مربيهم، ومتكفل بهم، وقائم على أمرهم، ومسبغ عليهم نعمه، فهو الجدير منهم بأتم خضوع، وأكبر تعظيم وإجلال، لأن هذا حق المربى على من رباه.
* * *
والوصف الثاني: أنه خلقهم وخلق الذين من قبلهم، وفي هذا الوصف تذكير للناس بأول نعمة عليهم، وهي نعمة الخلق لهم ولآبائهم من قبلهم، ونعمة الآباء نعمة للأبناء، إذ لولا خلق آبائهم لما وجدوا، فهو- سبحانه- أوجد الناس جميعًا من العدم، وإيجاده الناس من العدم نعمة جليلة أنعم بها عليهم، وآية من آيات كمال قدرته، والمنعم بهذه النعمة الجليلة، القادر على هذا الإبداع جدير أن يعبد، وأن يعبد وحده: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟}.
* * *
والوصف الثالث: أنه- سبحانه- بعد أن خلق الناس من العدم لم يتركهم سدى، بل أمدهم بنعم وافرة تحفظ لهم وجودهم، وتدبر لهم حياتهم.
جعل لهم الأرض فراشًا، أي ممهدة مهيأة للإقامة عليها، والاستقرار بها، كما يمهد الفراش لمفترشه، صير الأرض لهم مبسوطة كالفراش، بحيث يقعدون عليها وينامون، ويزرعون ويحصدون، ويبنون عليها بيوتهم، ثبتها بالجبال، ولو لم يثبتها اللَّه بالجبال الرواسي لمادت واضطربت، وما صلحت للاستقرار عليها، وما كانت مهادًا ولا فراشًا ولا بساطًا.
وجعل لهم السماء بناء يشبه القبة فوقهم، وزينها بالكواكب والنجوم، ليهتدوا بها، جعل لهم السماء التي هي كالسقف للأرض بناء، أي ثابتة ثبات البناء، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاء سَقْفًا مَّحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]، وقال جل شأنه: {وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ. وَالأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 47، 48].
ولم يقتصر سبحانه على أن مهد لهم الأرض ليستقروا بها، ورفع فوقهم السماء سقفًا محفوظا، بل أمدهم بما يكفل عيشهم، فأنزل من السماء ( السحاب ) ماء، فأخرج به من الثمرات رزقًا لهم، فهو- سبحانه يرسل الرياح فتثير سحابًا ( تهيجه وتحركه )، فتجعله كسفًا ( قطعًا بعضها فوق بعض )، ويخرج المطر من خلاله ( وسطه )، فإذا نزل الماء بالأرض أخرج اللَّه بسببه من ثمرات الأرض رزقًا للناس يأكلون وتأكل أنعامهم، واللَّه سبحانه هو خالق الثمرات من الأرض، وما الماء والسقى والحرث والبذور إلا أسباب.
أمر اللَّه الناس بأن يعبدوه، ووصف نفسه بأوصاف هي من دلائل نعمته، وآيات قدرته، ليحمل على الامتثال من يقدر النعمة، ومن يرهب القدرة، وفي الناس من يستجيب بالترغيب، ومنهم من يستجيب بالترهيب. ثم قال سبحانه: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي للتقوى غضب اللَّه وعذابه، الذي هو عاقبة المخالفين لأمر اللَّه تعالى، فعبادة اللَّه طريق لتقواه.
* * *
وبعد أن أمر اللَّه الناس بعبادته، ووصف نفسه بهذه الأوصاف الثلاثة التي تحمل على عبادته- فرع عن هذه الأوصاف نهيهم على أن يجعلوا لله أندادًا أي امتثالاً وأشباهًا يعبدون كما يعبد،