بسم اللَّه الرحمن الرحيم
باب التفسير
يقدمه: عنتر أحمد حشاد
2- سورة البقرة
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ. صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
بعد أن رأينا- في الآيات السابقة- صفات المنافقين، وأنهم يظهرون بألسنتهم الإيمان، ويبطنون في قلوبهم الكفر، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وبعد أن رأينا جهلهم، وخداعهم، ومنشأ نفاقهم وغرورهم- يضرب اللَّه تعالى لهم هذين المثلين ليزيد حالهم وضوحًا.
وقد عرفنا- في العدد السابق- مجمل هذين المثلين، وتطبيق التمثيل الأول على حال المنافقين.
وفي المثل الثاني: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ…} يدل قوله سبحانه: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم} على أن في صدر الآية محذوفٌ مقدرٌ يدل عليه السياق، والتقدير، واللَّه العليم بمراده: أو كقوم أمطروا بصيب من السماء.
والصيب: المطر المنهمر المتصوب، أي: النازل من علو، مأخوذ من الصوب، وهو: النزول والأنصاب.
والسماء: كل ما علاك، والمراد منها هنا: السحاب، فهو من معانيها،والسحب إذا تكاثفت وتصوب منها المطر أظلم الجو.
فيه ظلمات: المراد- واللَّه أعلم- الظلمات الناشئة من كثافة المطر، وتتابعه، وغمامه، وظلمات الليل.
ورعد: الرعد صوت مدو شديد،وبرق: البرق لمعان ضوئي شديد، يظهر ويختفي سريعًا، والصواعق: جمع صاعقة، وهي حرارة هائلة تصحب البرق والرعد أحيانًا.
فالرعد والبرق والصاعقة: ظواهر قد تصحب المطر، وهي مشاهدة محسة، وفهم التمثيل لا يتوقف على معرفة منشأ كل واحد منها وتعليله العلمي، وإنما يكفي له مشاهدة هذه الظواهر وآثارها.
وقد قرر العلماء أن الرعد صوت يحدث من تعادل كهرباء موجبة في سحابة بكهرباء سالبة في سحابة أخرى تلتقيان.
والبرق: سببه حدوث شرارة كهربائية ناشئة عن اتصال الكهرباء في سحابتين: أحدهما كهرباؤها سالبة، والأخرى كهرباؤها موجبة.
والبرق والرعد متلازمان غالبًا، ولكننا نرى البرق، ثم نسمع بعده الرعد، لأن سرعة الضوء تفوق سرعة الصوت أضعافًا مضاعفة.
والصاعقة: سببها اتصال كهربائي ناجم عن التفريغ الكهربائي الذي يحدث بين الأرض والسحب المكهربة، فتحدث حرارة بالغة سريعة، تصهر ما بينهما، أو تحرقه، أو تفتته، تبعًا لاختلاف مادته.
{واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} أي لا يفوته، ولا ينجو من بطشه، كما لا ينجو الشخص ممن أحاط به.
{وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي وإذا أظلم البرق عليهم ولم يضئ لهم وقفوا ولم يمشوا.
وفي هاتين الآيتين الكريمين ( 19، 20 ) تمثيل آخر لحال المنافقين في حيرتهم وترددهم، بين مضي في الإسلام وإحجام عنه بحال من أمطرته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف، وبرق خاطف، فتحير بين إقدام حين يلمع البرق، وبين إحجام حين يسمع الرعد، ويشتد الظلام، والمطر في كلتا الحالتين فوق رأسه ينهمر، فما أروع هذا التمثيل.
ويمكن فهم هذا التشبيه على أنه من تشبيه المفردات بعضها ببعض، فيشبه القرآن- الذي تحيا به القلوب- بالصيب، أي: المطر الذي تحيا به الأرض بعد موتها، ويشبه ما أحاط بالمنافقين من التردد والحيرة والشكوك، بما أحاط بالقوم أصحاب المطر من الظلمات، ويشبه وعد القرآن ووعيده بالرعد، وما فيه من الآيات الباهرة بالبرق، وتصادم المنافقين عما يسمعون من الوعيد بحال من يهوله الرعد فيخاف صواعقه، فيسد أذنيه عنها، مع أنهم لا خلاص لهم منها، وهو معنى قوله تعالى: {واللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} واهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه، أو رفد ( عطاء ) تطمح إليه أبصارهم بمشيهم في مكان ضوء البرق حين يضئ،وتحيرهم في الأمر وتوقفهم فيه حين تعرض لهم شبهة أو مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم البرق.
ونبه سبحانه وتعالى بقوله: {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} على أنه تعالى جعل السمع والأبصار ليدركوا بها طريق الهدى والفلاح، وينتفعوا بها، ولكنهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة، وأوصدوها عن الفوائد الآجلة، ولو شاء اللَّه لجعلهم بالحالة التي آثروها لأنفسهم، وهي إضاعة السمع والبصر، فإنه على ما يشاء قدير، ولكنه لم يفعل، لعلهم يعتبرون فيدركوا.
وقد أراد سبحانه أن يجزيهم على خبث ضمائرهم واعتلال قلوبهم بأن يحسوا