التراث الإسلامي ومهازل التحقيق
بقلم: محمد عبد اللَّه السمان
قد يتوهم البعض أن مهمة تحقيق التراث الإسلامي مهمة هينة سهلة لا مشقة فيها ولا عناء، لذلك أصبح من المعروف اليوم أن يحترفها كل من هب ودب من أنصاف المثقفين وأرباعهم، وكل من تسول له نفسه أن يدعي العلم في جرأة، حتى وإن كان يحمل أضخم المؤهلات، لأن هذه المؤهلات- ولا سيما المؤهلات الدينية- لم تزد على كونها مجرد رخصة يحتمى بها العجزة.
ولا يمكن أن يثبت للعالم علم بما يحمل من مؤهلات، وإنما يثبت له علمه باستعداده للقراءة والتحصيل مع قدراته على الفهم والاستيعاب.
لذلك كان العقاد رحمه اللَّه يقول: ( العلم هو القراءة ) وعلماء السلف لم يكونوا يحملون مؤهلات طنانة رنانة، ولكنهم- رحمهم اللَّه- تركوا لنا تراثًا فكريًا ستظل الأجيال المتلاحقة عيالاً عليه إلى أن يشاء اللَّه عز وجل.
أود أن أقول:
إن مهمة التحقيق ليست مهمة هينة لينة، وإنما هي مهمة شاقة مضنية، لا يخوض غمارها إلا من أوتي علمًا وبصيرة، وأمانة ودقة في البحث، وصبرًا وجلدًا على المعاناة، ومن هنا قيل: كل محقق عالم، وليس كل عالم محققًا، والقلة النادرة من المشتغلين بتحقيق التراث هم الذين يعرفون قدر أنفسهم ويقتنعون بما يحققون، والكثرة الساحقة من المشتغلين بتحقيق التراث أدعياء، لا تنقصهم الجرأة ولا الاستخفاف، وإنما تنقصهم الأمانة والخبرة معًا، وقد شجعهم على ما يقترفون في حق التراث أن مجال العطاء الإسلامي خال من النقد، بينما لهذا النقد وجود قائم على قدم وساق، في عالم الأدب والفن المزعوم، بل وفي عالم الرياضة أيضًا، ربما لأن وسائل الإعلام لدينا لا تهتم بالفكر الإسلامي من ناحية، ومن ناحية أخرى- لأن كثيرًا من كتابنا الإسلاميين يمنعهم القصور أو الحياء من ممارسة أعظم مهنة، وهي النقد.
منذ عامين وقع في يدي كتيب صغير منسوب إلى ” أحمد الرفاعي” شيخ الطريقة الرفاعية المعروف، وقد كتب على غلاف هذا الكتيب ” تحقيق فلان…” ولكن ما أن تصفحت الكتيب حتى صدمتني الحقيقة المرة، لم أجد أدنى أثر للتحقيق المزعوم، حتى التقديم للكتاب لم يكن بقلم ” المحقق” الهمام، بل استعاره من كاتب آخر…
وهاك مثالاً ثانيًا، وما أكثر الأمثلة، إنه كتاب ” الأخلاق المتبولية” للشعراني الذي قام بتحقيق أجزائه الخمسة الدكتور منيع عبد الحليم محمود المدرس بكلية أصول الدين، ونحن لا نتعرض لقيمة الكتاب الهابطة المسفة هنا، لأننا بصدد مهمة تحقيقه، فقد اطلعت على الأجزاء الثلاثة التي تم طبعها حتى الآن، فليس فيها ما يمكن أن يسمى تحقيقًا، بل إن الجزءين الثاني والثالث هوامشهما لا تتجاوز سطورًا معدودة تشير إلى أرقام بعض الآيات والسور…
إن اختيار مثل هذه الكتب المسفة التي تسيء بإحيائها إلى تراثنا الإسلامي لأصيل، يشكل جريمة لا تغتفر، فما بالك إذا كانت مهمة تحقيقها لا تقل سفاهة عن اختيارها.
فما أكثر تراثنا المخطوط، تراثنا العظيم الذي لا يزال قابعًا مهملاً معظمه في مكتبات أوربا، فقد قرأت أن المستشرق المجري اليهودي المعروف ” جولدتسهير” مؤلف كتاب ” العقيدة والشريعة” الذي حشاه طعنًا في الإسلام، هذا المستشرق اليهودي أوصى بمكتبته إلى الجامعة العبرية، وكان من بينها خمسمائة مخطوطة عربية إسلامية نادرة…
هذه مقدمة عامة لا أقصد بها تجريح أحد، وإنما أقصد بها أن تكون مدخلاً إلى قصة كتاب ينسب إلى التصوف، وينسب- على رغم منا- إلى التراث الإسلامي، هذا الكتاب عنوانه ” اللمع” ومؤلفه هو ” أبو نصر السراج الطوسي” الملقب بطاووس الفقراء والمتوفي سنة 378هـ، وقد كتب على الغلاف: حققه وقدم له وخرج أحاديثه، الدكتور عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ” رحمه اللَّه” وأول ما لفت نظري عبارة جاءت على لسان المحققين الفاضلين في مقدمتها للكتاب ” نشكر فضيلة الأستاذ العالم المحدث، السيد محمد الحافظ التيجاني، فقد تولى فضيلته تخريج أحاديث كتاب ” اللمع” بما عرف عنه من علم وأمانة، فأضاف عملاً صالحًا نافعًا مباركًا بإذن اللَّه…” إذن فالمحققان لم يقوما بتخريج الأحاديث النبوية كما كتب على غلاف الكتاب.. ولم يكن لينتقص من قدرهما أن يضعا الأمور في نصابها..
إن المجال لا يتسع هنا لتشريح كل ما في الكتاب من غثاء، فحسبنا أن نعرض نماذج سريعة مما جاء فيه، دون تعليق أو تحقيق من المحققين الفاضلين، ولا معنى لذلك إلا إقرارهما بما هو مخالفة صريحة صارخة لجوهر الإسلام..
1- حكي عن فتح الموصلي أنه أخذ يومًا صبيًا له فقبله، قال فتح فسمعت هاتفًا يقول: يا فتح.. ألا تستحيى أن تحب معنا غيرنا.. قال فتح: فما قبلت لي ولدًا بعد ذلك..
ولا أظن مثقفًا عاديًا يحتاج إلى تعقيب على هذا السفه، وقصة الأقرع بن حابس معروفة، حين رأى الرسول- صلوات اللَّه عليه وسلامه- يقبل الحسن أو الحسين؛ فقال: يا رسول اللَّه: إن لي عشرة أبناء ما قبلت أحدًا منهم، فقال له الرسول: