الاقتصاد الإسلامي
مدخل ومنهاج
بقلم : دكتور عيسى عبده
المقال الثاني
الاقتصاد المعاصر
يحفظ الدارسون عن ظهر قلب .. إن المدارس التي تابعت وتركت لنا هذا القدر الهائل من الفكر والرأي هم التجاريون ، فالطبيعيون فأنصار الرأسمالية فخصومها .. وخصومها هؤلاء يقال لهم (( اشتراكيون )) على التعميم ، وهم فرق .. بعضها مشهور وبعض آخر لا يستوقف النظر عند غير المتخصصين كالتعاونيين .. ذلك أن التعاون في الفكر الاقتصادي .. قد بدأ في صورة حركة مضادة لبعض الرأسمالية حين اتخذ البعض صورًا خاصة من التجارة ثم الصناعة .. وهكذا بدأ التعاون .
ومن الفرق المناهضة للرأسمالية أيضًا .. جماعات لا تدل أسماؤها على المبادئ لأول وهلة .. كدعاة الإصلاح .. فهؤلاء اشتركيون بدورهم .
ومن المذاهب ما يتخذ اسمًا له تاريخي يلقي ضوءًا كاشفًا على اختيار اللفظ وعلى مصدر الفكر والرأي .. كالماركسية والشيوعية .. ولكن حتى هذه المذاهب الصريحة يطيب لها أن تدعى بأنها وحدها تعمل على نشر الاشتراكية وأن ما عدها هو جهد العقل أو هو مرحلة تؤدي إلى ما بعدها .
ولعرض هذه المادة في إطار العام أساليب متفق عليها .. منها اتخاذ الأحداث التاريخية أساسًا للتقدم من خطوة لأخرى .. ومنها اتخاذ الفكر أصلاً والأحداث تبعًا ، ولكن الصواب هو اعتبار كل من الفكر والرأي ووقائع التاريخ مفردات تدور مع الزمن ، فبعضها يكون السبب أحيانًا ويكون النتيجة أحيانًا أخرى .. فارتقاء الوعي بين جماعات العمال مثلاً ، قد كان سببًا في حركاتهم وما وصلوا إليه من المركز المميز في بعض المجتمعات .. ومن هذا المركز بدأت حركات أخرى تلتها أحداث .. ولذلك يتعذر القول بأن التقدم التكلنولوجي كان سببًا في زيادة الحقوق السياسية للأفراد ، أم أن هذا التقدم كان من نتائج التحرر والمساواة في مجتمعات كان ترسف في العبودية ألف عام في أدق التقديرات التي سجلها التاريخ . نقول بأنه يتعذر القطع بواحد من الرأيين .. وما بنا من حاجة إلى ترجيح قول على قول لأن النقاط الواقعة على دائرة ( هكذا عجلة الزمان ) تدور وتتباول مراكز التقدم والتبعية مع الدوران ، وهذه من طبائع الأشياء .. إذن من الصواب أن نقول بتكامل الآراء والأحداث وتلاحقها في ترابط دائري .
ومن أساليب عرض المادة أيضًا .. اختيار الأشخاص الذين عاشوا زمنًا وجمعتهم فكرة ومجموعة من الآراء .. ولهم في حياتهم أنصار ولهم بعد ذلك تابعون .. كما كان لهم خصوم .
وأسلوب ثالث يقوم على التصنيف .. فيميز الفكر والرأي والنظام والسياسة والعقيدة والمذهب . ويضع هذا كله في موضعه المنفصل عن علم الاقتصاد إذ العلم لا يضع (( الفكر )) للآراء والأهواء وتتابع الأحداث وإنما يتألف العلم من مفردات ثاتبة تقوم بينها نسب وصلات ولا يملك الإنسان بكل ما أوتي من حيله أن ينال من هذه الأوضاع .. ونجد هذا واضحًا في النظرة الاقتصادية التي تقوم على الحقائق المجردة من الفكر والرأي .. كنظرية النقود مثلاً وفعل التضخم في مستويات الأسعار .. هذا من علم الاقتصاد .. وقد ينجح التدخل المقصود ( استنادًا إلى السلطة ) في تعطيل بعض الآثار أو إخفائها عن الأنظار أو تلطيفها زمنًا ، ولكنها واقعة حتمًا إذا اجتمعت أسبابها وليس للإنسان رأي في هذا .
وإنما يطول الجدل أحيانًا حين يغيب عن الباحث أن حياة المجتمع الإنساني وما تزخر به من ظاهرات معلنة أو خفية .. تخضع لقوانين ثابتة تفرض سلطاتها ولو في المدى الطويل .. ولا تختلف هذه القوانين عن نظائرها التي تحكم الجوامد والطاقات .. من حيث الثبات والترابط التام بين المقدمات والنتائج .
ومن أسلوب التصنيف أيضًا أن يدور البحث في ميدان محدد بمعالمة الخاصة به .. كالبحث في التجارة الخارجية وحدها أو السكان أو المصارف .. غير مراحل التاريخ وفي ظل النظم والسياسات على ما بينها من تشابه أو افتراق .
وباختلاف أساليب العرض كان التكرار في الأمر الواحد من زاية وثانية وثالثة ، وقد أتاح هذا التكرار فرصة الموازنة ومن ثم الوضوح ، ولكن الإسراف في أي شيء يقلب الأوضاع ، ولذلك يقال بأن الكثير من قضايا الفكر الاقتصادي لم يزد على وفرة العرض لا غموضًا وبخاصة حين يتوسع الباحث ليربط الاقتصاد بجملة الدراسات الإنسانية .
سنذكر هذا كله ، إذن ، بأبسط الأساليب وأكثرها أمنًا .. سنعرض للأحداث والوقائع والأشخاص جميعًا في تتابع زمني مع أحكام الربط بين هذه المفردات على مراحل مميزة ولئن كان اختيار الثورتين الصناعية والفرنسية بداية للدراسات الاقتصادية على نهج علمي .. أمرًا مسلمًا .. إلا أنه من المتفق عليه أيضًا أن مقدمات هامة قد وقعت قبل ذلك ببضعة قرون ، وبخصاة تلك الكشوف الجغرافية التي توالت من القرن الخامس عشر وكانت لها آثار مباشرة على الفكر الاقتصادي عند الأفراد والجماعات .. وعند رجال الحكم والسياسة .. وهذا ما نعرض له بالإشارة البعيدة فيما يلي .. لمجرد التنبيه إلى