الإيمان … ومزاياه – الحلقة العاشرة >؟< بقلم د / السيد عبد الحليم محمد السبب الثالث من أسباب السكينة عند المؤمن نجاته من عذاب الشك : بهذا الإيمان ، سلم المؤمن من الشك والاضطراب ، واستراح من البلبلة والحيرة ، التي يتجرع غصصها الجاحدون المرتابون ، لقد عرف أن له ربًّا - هو رب كل شيء - الذي خلقه فسوّاه ، وكرمه وفضله ، وجعله في الأرض خليفة وكفل له رزقه ، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه . وعرف أن هذه الحياة القصيرة التي يعيشها الناس ، ممزوجة الخير بالشر ، والعدل بالظلم ، والحق بالباطل ، واللذة بالأم ليست هي الغاية ، ولا إليها المنتهى ، إنما هي مزرعة لحياة أخرى . وعرف أنه لم يُخلق في هذه الحياة عبثًا ، ولم يترك سدى ، فبعث الله إليه رسله بالبينات ، هداة ومعلمين ، مبشرين ومنذرين ، ليهتدي الناس إلى الحق ، ويستبينوا معالم الطريق ، ويعرفوا ما يرضي الله فيتبعوه ، وما يسخطه فيتقون . وعرف المؤمن أنه ليس غريبًا على هذا الكون الكبير كله من حوله ، ولا معزولاً عنه ، إن الكون كله معه ، ففطرة هذا الكون هي الإيمان ، هي التسبيح والسجود للرب الأعلى : ( تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ) [ الإسراء : 44] . إن هذا الشك والاضطراب والقلق الذي يتقلب على جمره الحائرون والمرتابون في وجود الله وحكمته ، وعدله ورحمته ، وجزائه في الآخرة ، ووحيه إلى رسله ليس شيئًا هينًا إنه عذاب أليم ، وكوة فتحت على أهله من الجحيم ، تلفحهم بنارها ، وتشوي قلوبهم بجحيمها ، وكلما خف لهيبها ، هبت عليهم عواصف الشك من جديد ، فاشتعلت النار ليذقوا العذاب ، إنه سيحرمهم سكون النفس ، وينغص عليهم حياتهم ، ويؤرق عليهم ليلهم ، ويكدر عليهم نهارهم ، إنهم يعيشون كما قال الله : ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) [ طه : 124] . رابع أسباب السكينة عند المؤمن : وضوح الغاية : غير المؤمن يعيش في الدنيا تتوزعه هموم كثيرة ، في حيرة بين إرضاء غرائزه ، وإرضاء المجتمع ، والمؤمن قد حصر غايته في رضوان الله تعالى ، لا يبالي معه برضا الناس أو سخطهم ، شعاره : إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب والمؤمن قد جعل همومه همًّا واحدًا ؛ يسأل الله في كل صلاة عدة مرات : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) [ الفاتحة : 6] ، وهو طريق واحد لا عوج فيه ولا التواء : ( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) [ الأنعام : 153] ، وما أعظم الفرق بين الرجلين : ( أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ الملك : 32] ، واستهان المؤمن في سبيل هذه الغاية بكل صعب ، ألا ترى إلى خبيب ، وقد صلبه المشركون ، وأحاطوا به يظهرون الشماتة ، يقول : ولست أبالي حين أقتل مسلمًا على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع لقد عرف المؤمن الغاية فاستراح إليها ، وعرف الطريق فاطمأن به ، إنه طريق الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، إنه ( الصراط المستقيم ) الذي يهدي إليه محمد صلى الله عليه وسلم : ( وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52)صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ) [ الشورى : 52 ، 53] ، وبهذا الصراط المستقيم ، كان المؤمن في أخلاقه وسلوكه ، مطمئنًا غير قلق ، ثابتًا غير متقلب ، واضحًا غير متردد ، مستقيمًا غير متعرج ، بسيطًا غير معقد ، إن له مبادئ واضحة ، يرجع إليها في كل عمل : ( قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ(15)يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [ المائدة : 15 ، 16] . فالمقياس الخلقي عند المؤمن واضح ثابت ينحصر في رضا ربه ، وطاعة أمره ، واجتناب نهيه ، معتقدًا أن في ذلك سعادة أولاه وأخراه . وفي القصة التالية العجيبة - لأب وابن مؤمنين - مثل رائع لليقين الذي لا يعرف الشك والمسارعة التي لا تعرف التردد ، أو الحيرة أو التخاذل في الله ، شيخ كبير ، اشتاق إلى الولد ، ودعا ربه ، فأوتيه على الكبر ، وبشرته به السماء : ( بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ) ، فتعلق به قلبه ، وأفرغ فيه كل ما لديه من حنان وحب ، وظل ينمو فينمو معه


