الإنسان الذي يريده الإسلام
لفضيلة الشيخ
سيد سابق
الأستاذ بجامعة الملك عبد العزيز آل سعود بالمملكة العربية السعودية
يتكيف سلوك الإنسان في الحياة حسب نظرته إليها ، فمن الناس من يرى أن الحياة هي هذا الواقع المادي الذي يدركه بصره ويقع عليه حسه .
وإن ما وراء ذلك من عالم الروح وما جاءت به أنبياء الله من التعاليم الإلهية، وما أخبرت به من عالم ما وراء الطبيعة فما هو إلا ضرب من التخيل ابتدعه الوهم، وحملت عليه الظروف القاسية التي كثيرًا ما يضطر الإنسان إلى أن يخلق لنفسه عالمًا حالمًا يعيش فيه ويجد فيه مسلاة له وعزاء عما فاته من هناء.
وهذا الصنف من الناس ، ممن شأنه أن يقبل على اللذائذ يشبع منها نهمه ، ويعب منها ما وسعه أن يعب ، دون أن يقيد بقيد أو يقف عند حد ، إلا بالقدر الذي يعينه على إشباع غرائزه ، وتحقيق آماله وأطماعه ، وقديمًا قالوا : وما هي إلا حياتنا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ، ولا يختلف منطق هؤلاء لا في القديم ولا في الحديث .
فالنفس الإنسانية ، هي النفس الإنسانية في كل زمان ومكان .
وها هي هذه أمم الحضارة المعاصرة ، ترى هذا المنطق وتنظر هذه النظرة، وتعيش في حدود هذه الفكرة فتسخر جميع القوى لتحصل على أكبر قسط من اللذة وأوفى حظ من الشهوة ولو كان ذلك على حساب غيرها من الأمم والشعوب .
فكم من عزيز أذلته وكم من حق أضاعته ، وكم من دم سفكته ، وكم من عهد نقضته ، وكم من جريمة اقترفته .
وصدق الله العظيم إذ يقول : { وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ }.
وكل ما نراه من الجرائم والمآثم إنما هو نتاج هذا التفكير المادي وثمرة الكفر بذخائر النفس الإنسانية ، وأثر من آثار التنكر للحق ، والاستهانة بالمثل .
ومن ثم كانت هذه النظرة المادية للحياة نظرة من شأنها أن تباعد بين الإنسان وبين فطرته الخيرة ، وتسلخه من الطبيعة والسماحة . وتخلق منه عدوًا لنفسه وللإنسانية وتجعله شر ما يدب على الأرض .
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ . وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } .
فالآية تقرر أنهم فقدوا مصادر المعرفة وقوى الإدراك ، فهم صم عن الحق لا يستمعون إليه ، وبكم لا ينطقون به لأن قلوبهم في عمى عن نور الله ، وفي ضلال عن هدايته .
ما حظ الأصم عن سماع الغناء الجميل ؟ ونصيب الأعمى عن المشاعل المضيئة ؟
وإذا كان ذلك كذلك فإن على الإنسان أن يصحح نظرته إلى الحياة ، وأن يرتفع بها عن مستوى الشهوة واللذة ، ويسلك المسلك الذي يحقق إنسانيته ، ويسمو بها إلى الأفق الأعلى ، دون أن ينسى نصيبه من الدنيا وحظه المادي من هذه الحياة .
وسبيل ذلك أن يتجرد من السطحية ويتغلغل في فهم وجوده ومعرفة شخصيته .
وكل ما بين يديه إنما يأخذه برفق ليصل به إلى هذه الحقيقة .
فالكون كله ، سماؤه وأرضه مسخرة لمنفعته . ومذلل لخدمته ، وجار على السنن التي تعينه على تحقيق أهدافه الكبرى .
وليس في شيء يتعارض وكماله الذي يسعى في تحقيقه ، ويجدُّ في الوصول إليه : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ }.
وفي هذا تحقيق لسيادة الإنسان على هذا الكون المادي .
وهذه السيادة تقضي أن يجعلها أبدًا خاضعة له ، مسخرة لعقله وإرادته ، لا أن تستبده ولا أن تستذله فتنقلب الأوضاع ، ويصبح الخادم مخدومًا والعبد سيدًا .
وفي هذا ما فيه من المهانة ، بله تغيير خلق الله .
وصيحات الحق تنبعث من خلال كتاب الله عز وجل تحرك فيه إنسانيته ، وتكشف له عن مواهب الله التي أودعه إياها ليصل بها إلى أقصى ما قدره له من كمال .
فوحي الله سبحانه ، يقرر أنه خلق الإنسان بيديه تكريمًا له وتشريفًا ، ونفخ فيه من روحه ليبقى مصباح الحياة فيه دائمًا لا ينطفئ .
وأفاض عليه من الاستعداد العقلي ما يصل به إلى الذروة في العلم والمعرفة ، وهيأ الله نفسه لتلقي كلمة الله والقيام بها ليستقر النظام الذي يريده الله لإسعاده وجعله خليفة عنه في إقامة الحق والعدل ، ولم يجعل لكماله غاية سوى لقائه والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم .
{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً